"من الباب للطاق"، وبدون مناسبة، جاء الهجوم على الشيخ عبد الحميد كشك، ليبدو الأمر، كما لو كان منهج سلطة، ومُخطَّطَ حُكمٍ يرى من هو على رأسه أنه مسؤول عن "دِينِ المصريين"، بحسب اعترافه!
فالشيخ كشك، توفي قبل عشرين عاماً، وقد مرت ذكرى مولده، ولسنا في ذكرى وفاته، حتى تكون هناك مناسبة للكلام عنه ما يعطي فرصة بذلك لـ"أسامة الأزهري"؛ خيار عبد الفتاح السيسي الإستراتيجي، والجنين في بطن أمه يعلم أنه لو خلى منصب شيخ الأزهر، بالوفاة أو بالضغوط لحمل الشيخ الطيب على الاستقالة، فإن البديل يدور بين "علي جمعة"، صاحب التحريض الشهير للعسكر "اضرب في المليان"، وبين تلميذه النجيب "أسامة"، الذي صنعه السيسي على عينه، واصطفاه مستشاراً دينياً له، على نحو يجعله مسؤولاً عن رئيسه، وهو يمارس "الهرطقة"، ولم يكن آخرها تفسيره المنحرف لقصة المرأة التي ورد ذكرها في سورة "المجادلة"!
من هاجم الشيخ عبد الحميد كشك، هو المستشار الديني لعبد الفتاح السيسي، والمذيع الذي استضافه، هو من مجموعة الإعلاميين، الذين يستدعيهم السيسي لمقابلاته لإثبات احترامه لحرية الصحافة |
وعندما ننظر للمشهد الذي جرت فيه الإساءة للشيخ كشك، فسوف نقف على أنه يتجاوز، أن يكون الدافع إليه مذيعاً، يشكو من الفشل، فبحث عن الإثارة، فعثر على ضيف أراد أن يمده بها على قاعدة ما يطلبه المستمعون، وبعض ضيوف برامج "التوك شو" يعرفون أنهم استدعوا للإثارة فلا يخيبوا أمل من استدعاهم فيهم!
فمن هاجم الشيخ عبد الحميد كشك، هو المستشار الديني لعبد الفتاح السيسي، والمذيع الذي استضافه، هو من مجموعة الإعلاميين، الذين يستدعيهم السيسي لمقابلاته لإثبات احترامه لحرية الصحافة، ويجري تخليقهم في المصانع الحربية ليكونوا جيلاً جديداً من الإعلاميين يربطهم به، لأنه يعلم أن كثيرين من إعلاميي الموالاة، هم متعددو الولاءات، وفي بعض القضايا، التي تتعارض مصالحهم فيها مع مصالح السيسي، فإنهم يبيعونه فلا يجد إلا أحمد موسى ليقوم بالمهمة، وهو في النهاية "تمامه" بالمفهوم العسكري عند جهاز الأمن الوطني ووزارة الداخلية، والسيسي "كالفريك لا يحب شريك"!
هذا بالإضافة إلى أن المنبر الذي انطلقت منه الإساءة لرجل بحجم الشيخ عبد الحميد كشك، هو مملوك لعبد الفتاح السيسي، دعك من "الواجهة" والملكية الصورية لرجل الأعمال "أحمد أبو هشيمة"، وهي قناة "أون تي في"، المملوكة سابقاً لرجل الأعمال أيضاً "نجيب ساويرس"، لكن تم الضغط عليه ليتخلص منها لصالح السيسي، وفي صفقة مثَّله فيها "أبو هشيمة"، الذي انتقل من مركب الإخوان إلى مركب المنقلب عليهم في يُسرٍ وثبات، وقد وثق فيه الحاكم الجديد، لدرجة الدفع به لشراء عدد من القنوات والصحف لضمان الولاء التام، ومعروف أن الإعلام صناعة ثقيلة ولا يمكن في زمن الكساد الاقتصادي لرجل أعمال؛ أن ينفق بسخاءٍ على قناة واحدة وليس مجموعة قنوات ومجموعة صحف!
والحال كذلك، فإن الرسالة قد وصلت، فالهجوم على قامة بحجم الشيخ كشك، لم تأت من فراغ، ولكنها جاءت في سياق حكم يتطاول على قامات دينية، ليمهد الطرق لهرطقاته، ولعناوينه التي تفتقد للمتون، فعندما يتكلم "ولي أمر" أسامة الأزهري، عن تجديد الخطاب الديني فإنه لا يقدم رؤية لذلك، اللهم إلا كلاماً اعتباطياً، مثل فتواه عن ضرورة تقنين الطلاق فلا يقع إلا أمام المأذون، وهو ما رفضته هيئة كبار العلماء بالإجماع، ولم يشذ عن هذا الإجماع "صديقه الأنتيم"، و"مفتي مبارك" علي جمعة!
الشيخ كشك، هو زعيم دولة الخطابة بلا منازع، على نحو انتقل بخطبه عبر "الكاسيت" لتنتشر في كل أنحاء العالم، فيطلق عليه "جيلز كبيل" في كتابه "النبي الفرعون" لقب "فارس المنابر" |
ما علينا، فقد ظن الفتى "الأزهري" أنه يمكنه أن يناطح جبلاً كالشيخ كشك، فكان كناطح صخرة يوماً ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل! وهو يتملكه الظن، فقد قال إن الشيخ كشك اعتمد على الهياج والصياح والخطاب السطحي المبتذل! ولا نعرف ما هو خطاب "الأزهري" وقد استمعت له مؤخراً خطيبا للجمعة في مسجد "المشير طنطاوي" وفي حضرة "شيخه السيسي" فكانت خطبة سياسية، ليس فيها قال الله وقال الرسول، إنما فيها قال السيسي وفعل، على نحوٍ مثَّل خروجا بها من كونها خطبة للجمعة، إلى كلمة لسياسي تحت التمرين في مؤتمر فاشل!
الشيخ كشك، هو زعيم دولة الخطابة بلا منازع، على نحو انتقل بخطبه عبر "الكاسيت" لتنتشر في كل أنحاء العالم، فيطلق عليه "جيلز كبيل" في كتابه "النبي الفرعون" لقب "فارس المنابر"، فكلما وليت وجهك جاءك صوت الشيخ كشك! وللشيخ مدرسة فريدة في الخطابة، إن كانت مقطوعة فإنها غير ممنوعة، فالشيخ ليس مقلِّداً لأحد من قبله، وخرج بخطبة الجمعة عن سياقها التقليدي، لكنها غير ممنوعة لأن هناك من يقلِّدونه سواءً في استدعاء طبقة صوته، أو في صيغة التفاعل مع المصلين، وإن افتقدوا روحه، بل أكاد أجزم أن ظاهرة القراء الجدد في التفاعل، مثل الشيخ "محمد جبريل" ومن جاءوا من بعده هي متأثرة بمدرسة الشيخ كشك وتقليده له بتصرف، وهي مدرسة تفاعل معها الملايين على ظهر الكرة الأرضية!
لقد انتقل الشيخ كشك من مجرد "خطيب" بوزارة الأوقاف المصرية، إلى ظاهرة تجاوزت حدود القُطر المصري، وهو انتشار لم يحققه غيره، بمن في ذلك الشيخ متولي الشعراوي، الذي استدعاه "أسامة الأزهري" للمقارنة، لاستغلال شعبيته في تمرير جريمته، ولا ندري لماذا لم يقارن "أسامة" -عاشت الأسامي- نفسه بالشيخ كشك، وكلاهما خطيب بوزارة الأوقاف، وقد فُتحت له الفضائيات على مصراعيها، فلم يشد أحد الرحال إلى مسجده كما كان الحال بالنسبة للشيخ كشك، ولم يترك بصمة في مجال الخطابة، تجعل منه علامة، وصارت علامته الوحيدة التي تميزه عن أقرانه هي عمامته متعددة الطوابق، ليعوض بها قصر قامته وهوانه، وإحساسه بأنه ضئيل في الحضور وفي الغياب!
ولا أنكر أن "أسامة الأزهري" متكلم كشيخه "علي جمعة"، لكن توجد عندهما مشكلة إذا خطبا، فهما يثيران شفقة من يستمع إليهما، والمنابر تحتاج إلى خطباء، ويحاولان التغلب على عاهتهما، فتأتي أصواتهما من أمعائهما ضعيفة، وهذه العاهة تتمثل في أن طبقة الصوت عند "علي" وتلميذه "أسامة" هي بحسب تصنيف الموسيقيين هى الطبقة "السوبرانو"؛ وتعني الصوت ذو الطبقة الأعلى بين أصوات النساء. هذا عند الخطابة، أما في الكلام التلفزيوني العادي فإن أصواتهما لا تخرج عن الطبقات النسائية بشكل عام، فإذا كانت "السوبرانو" إذا خطبا، ففي الكلام العادي تتراوح بين "ميرو سوبرانو" و "كونتر الو"، وهو ما يشتهر بها الصوت الأنثوي بشكل عام، وبطبيعة الحال فإن من النساء مَنْ طبقات أصواتهن تنتمي لطبقات أصوات الرجال مثل "تهاني الجبالي": "تنيور وباريتون وباس بورتيون".. إلى آخره!
لقد مات الشيخ كشك، لكن الهجوم عليه هو تطاول على نموذج العالِم الذي يقاوم الاستبداد والمستغني عن الحكام وما في أيديهم، لصالح نموذج الشيخ الغلام ومن على شاكلته! |
وربما مثل الشيخ كشك وطبقة صوته الواسعة، عقدة لأسامة فكانت من بين الدوافع التي جعلته يهاجمه بدون مناسبة هي هذه "العقدة"، لكن يظل هذا عاملاً ثانوياً، فالشيخ كشك ينتمي للمعارضة الدينية، حيث كان مدرسة في الزهد تماما كما كان مدرسة في الخطابة، فلم يقبل بعطاء السلطة من أجل أن يسكت فلا ينتقدها، بعد أن فشلت السجون في إسكاته، ورفض أن يترك مصر وينعم بالإعارات الخارجية، إلى أن تم منعه من الخطابة، وعندما كان العرض أن يعود لمنبره ولكن قبل هذا يلتقي بوزير الأوقاف، ليثبتوا باللقاء أن الشيخ انصاع السلطة قال إن اللقاء يكون بعد أن يلقي الخطبة الأولى حتى يفهم الناس أنه عاد بدون قيد أو شرط، فرفضوا ورفض!
وقد كان الشيخ عبد الحميد كشك، فقيراً ولم يشعر بأن فقره "عقدة" تدفعه لأن يبيع دينه بديناه، أو بدنيا غيره، وغيره فعل، فركن إلى الذي قتل الأبرياء العزل، واغتصب حُكماً ليس من حقه، وأفقر شعباً بأكمله فلم يغنى في عهده إلا الجوقة، حيث تضم فرقته الموسيقية رجال دين يزينون له سوء عمله ليراه حسناً، ويأتي الهجوم على الشيخ كشك لتكريس نموذج ديني لا يُقاوِم الفساد، بل يتعايش معه، ولا يواجه الظالمين بل يركن إليهم، ولا يصدح بما يؤمر، لكن يُقدِّم خطاباً دينيا رقيقا ناعما كوجوهٍ مُورِسَ معها "النتف بالفتلة"، مكانه في الكنائس، فيبدو أن تجديد الخطاب الديني في جانب منه يعني التعامل مع الخطاب الكنسي على أنه القدوة والنموذج!
اللافت، أنه في عهد الأنظمة التي كان يواجهها الشيخ كشك في خطبه المنبرية؛ لم يكن هناك شيوخ يهاجمون الشيخ بل إن ملفه في وزارة الأوقاف لم يكن مع أي من الشيوخ بها، ولكنه كان بيد المسؤول عن الأمن، الذي استدعاه مرة وأراد أن يرهبه فضرب بيده على المكتب، وكان لواء شرطة، فقال له الشيخ إنني أرفض أن تضرب يدك بهذا الشكل، فلستُ لِصَّاً وأنتَ الشريف، ولستَ قاضياً وأنا المتهم، وعندئذٍ انهار المسؤول الأمني وتودد إليه وهو يطلب منه ألا ينقل ما جرى للناس في خطبة الجمعة!
ربما كان الأزهري الوحيد الذي هاجمه، هو الشيخ "محمد سعاد جلال" في زاويته بجريدة الجمهورية " قرآن وسنة"، ورد عليه الشيخ كشك بما أسكته عندما وصفه ساخراً بـ "الشيخ بيرة"، لأن "سعاد جلال" كان شيوعياً، وقد كتب أن "البيرة حلال"! بيد أن مشروع السيسي الديني، وهو مشروع يقوم على الخواء الفكري، يبتذل شيوخه في المعارك الخاسرة، وبالاعتقاد أن غلاماً يمكنه أن يهين رمزاً بعد أن غيبه الموت!
لقد مات الشيخ كشك، لكن الهجوم عليه هو تطاول على نموذج العالِم الذي يقاوم الاستبداد والمستغني عن الحكام وما في أيديهم، لصالح نموذج الشيخ الغلام ومن على شاكلته!
لقد كان الشيخ كشك يردد دائماً:
" ما ضرَّ البحر أمسى زاخراً .. أن رمى فيه غلامٌ بِحَجَرْ؟!"
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.