شعار قسم مدونات

مئة يوم في البيت الأبيض

blogs - trump

دأب الرؤساء الأميركيين عند استلامهم مقاليد الحكم على وضع أجندة عمل مفصلة لأول مئة يوم من عمر الرئاسة وتلك سيرةٌ أولى أوجدها الرئيس فرانكلين روزفلت حين أمر إدارته بوضع استراتيجية عمل سريعة من شأنها معالجة مشاكل الاقتصاد المتفاقمة آنذاك، وتكتسب المئة يوم الأولى من الحكم أهميتها من حيث أنها تكشف اللثام عن ملامح السياسة الأميركية داخلياً وخارجياً لأربع سنواتٍ قادمة هذا من جهة ومن جهة أخرى هي فترة امتحان لِنازل البيت الأبيض الجديد ومدى وفائه لبرنامجه الانتخابي الذي أوصله سدة الحكم.

في اليوم العشرين من يناير الماضي لهذا العام تم تنصيب دونالد ترمب رئيساً للولايات المتحدة الأميركية ومن أدبيات هذا اليوم أن يتوجه الرئيس الجديد بخطابٍ للأمة الأميركية وللعالم أجمع، يفتح فيه دكان أفكاره ويعرض ما فيه من بضاعة، وهذا ما فعله الرئيس ترمب في خطاب تنصيبه الذي قزَّم فيه رؤساء سابقين وسفّه ما صنعته أيديهم ليُثقل كاهله بإصلاح أخطاء الماضي وإنجاز وعود الحاضر التي قطعها على نفسه أمام الأميركيين كافة.

في إجمالٍ لما وعد به على الصعيد الداخلي فقد نادى في الأميركيين قائلاً أنه سيوفر لهم الوظائف وأنه بصدد إرجاع المصانع التي هجرت الأراضي الأميركية فتسببت ببطالة عمالها، ووعدهم أيضاً بالعمل على تنمية البنية التحتية وإعادة تأهيلها بأموالٍ كانت قد خُصصت لدعم برامج الأمم المتحدة وفي ذلك تخفيضٌ بطبيعة الحال من الدعم الأميركي لمنظمة الأمم المتحدة.

تدني في شعبية ترمب لحدود الواحد والأربعين بالمئة في آخر استطلاعٍ للرأي وكل الرؤساء الذين سبقوه لم تقل نسبة شعبيتهم في المئة يوم الأولى عن الثلاثة والخمسين بالمئة.

تبنى أيضاً إصلاح المؤسسة العسكرية وكان ذلك واضحاً حين أمر بزيادة عشرة بالمئة إلى مخصصات البنتاغون، وهناك على صعيد التجارة فقد وعد بالانسحاب من اتفاق الشراكة التجارية عبر المحيط الهادي وقد نفذ وعده وانسحب من هذه الاتفاقية مؤمِلاً الأميركيين بعقد اتفاقيات تجارية ضخمة مع بريطانيا ومع الاتحاد الأوروبي.

أما قطاع الصحة فقد أخفق في إزاحة نظام الرعاية الصحية "أوباما كير" بعد تمرد متشددي حزب الشاي الجمهوريين في الكونغرس وعدم التصويت لصالح المشروع البديل، أما ملف الهجرة فقد أعلن التزامه بخفض مستوى الهجرة غير الشرعية وأنه سيقوم بإنشاء قوة ترحيل تستهدف مهاجرين غير شرعيين وفي ذات السياق وعد ببناء جدار على الحدود مع المكسيك بهدف منع تسلل المهاجرين إلى الداخل الأميركي وقد واجه الأميركيين مشروع بناء هذا الجدار بمعارضة كبيرة لما فيه من خروج على الثقافة الأميركية وقيمها التي اعتادت بناء الجسور مع الآخر.

خارجياً أعلن أنه سيعزز العلاقة مع حلفاء أميركا التقليديين وأنه سيعمل معهم للتصدي لكل عابثٍ بالأمن والسلم الدوليين وبأنه سيعيد للولايات المتحدة ما فقدته من مكانة وهيبة وفي ذلك تفسير للمساحة الكبيرة التي أعطاها لجنرالات البنتاغون ليتصدروا المشهد على حساب دبلوماسيي الخارجية.

من جهة أخرى فقد أقدم على قرار حظر السفر بحق رعايا ست دول غالبيتها من المسلمين الأمر الذي فجَّر احتجاجات شعبية واسعة ضده على إثرها تم تجميد القرار في أكثر من محكمة لكن الأمر لم ينتهي عند هذا الحد ففي الشهر القادم ستبدأ جلسات الاستئناف للبت في دستورية القرار وإن لم يتم البت به فسيذهب الملف للمحكمة الدستورية العليا وقد لا تجري الأمور كما يشتهيها معارضي القرار بعد اكتمال نصاب المحكمة بتعيين القاضي التاسع المحافظ "نيل غورسيتش".

إذا تتبعنا ما أُنجز من أجندة عمله الضخمة تلك فإنه لم ينجح إلى اليوم بتمرير مشاريع قوانين باسمه عبر الكونغرس، ولم ينجح بترجمة أغلب وعوده إلى واقع ملموس، حتى نجاحه في انتعاش وول ستريت يراقبه الأميركيين عن كثب إذا ما كان هذا الانتعاش سيعود عليهم بوظائف دائمة وفرص عمل قائمة أم لا، وهذا ما يفسر تدني شعبيته لحدود الواحد والأربعين بالمئة في آخر استطلاعٍ للرأي وفي هذا سابقة حيث أن كل من سبقه من الرؤساء لم تقل نسبة شعبيتهم في المئة يوم الأولى عن الثلاثة والخمسين بالمئة، ربما هو بحالٍ أفضل في الخارج حيث يعمل على عديد من الملفات الدولية بقدرٍ من الأهمية ويبعث برسائل هنا وهناك لكنه إلى الآن يكتفي بإطلاق المواقف دون أن يبني تصورات واضحة تُفند خطة عمله الخارجية.

مع كل الخصوصية التي تحوفُ هذه المئة يوم إلا أنها قد تكون فترة قصيرة لا تسمح لأي رئيسٍ مهما كان ألمعياً بأن يُفضي بما في جُعبته ويترجمه واقعاً خاصةً وأننا نتحدث عن رئاسة بلادٍ ذات أثرٍ عظيم، بلادٌ إذا ما عطست أصيب العالم بالزكام، ولعله كان مُحقاً الرئيس "جون كينيدي" حين قال في خطاب تنصيبه "كل هذا لن يكتمل في أول مئة يوم ولن يكتمل خلال أول ألف يوم ولا خلال حياة هذه الحكومة ولا حتى ربما خلال حياتنا على هذا الكوكب ولكن دعونا نبدأ" وفي ذلك إشارة لسهولة التخطيط وصعوبة العمل والتنفيذ ضمن أطر زمنية محددة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.