شعار قسم مدونات

أنا يمني

blogs-yemen
نعم أنا يمني، عبق الأرض لم يغادر أنفاسي في نزوحي و منفاي؛ كم كانت تسحرني ألوان "المشاقر" المتدلية على وجنتي حليمة؛ تلك المرأة الريفية، التي لم تكن تكتفي باستفزازي بذلك التعانق بين وجنتين متوردتين، تطفحان أنوثة مستفزة، وإضمامة ورد وريحان"المشاقر"، بل تضيف جنونا وعبقرية، فتتغنى بأنفاسها العطرية بمَغْنَى "الشرفي" وتلاحين "أيوب": 

واسقيك بارد مبخَّر بالبخور
وان جيت ترقد أفرِّش ميزري..
والحِّفك بالمشاقر والزهور
وريت والله وصدرك دفتري
أكتب عليه شعر موَّاج البحور
كم سبَّني الناس بك وانا بري
ولو تجمَّلت فالباري غفور

أنا يمني، رسم التاريخ في باطن كفي خارطة الكون، ونقشت أحماله على كتفي أوجاع الثقلين، وتدلى القمر على صدري كجمانة مضيئة، يستقي عصارة جسدي المنهك.

لحظات أتوقف فيها عن الشعور بالزمان والمكان، أشعر أن حليمة ساحرة، حين تناغي أنسام الصباح بذلك الشجن الشغوف فتتراقص مع أنفاسها المنغّمة – حين تغني – الزهور وأغصان الشجر، والعصافير، مهرجان كوني أكون فيه ضيف شرف، تنسل روحي لتعانق روحها كل صباح، ثم تعود إليّ مضمّخة بأطيب طِيب، أشعر أن الطبيعة بكل تفاصيلها كانت في وضع السكون حتى تطل حليمة بوجهها من نافذة الدار، ثم تشرق على المروج والأزهار والفراشات والندى والعصافير والنباتات والأشجار، مشهد من مشاهد الفانتازيا المدهشة، يُخيل إلي أن أصوات الشلالات التي تحيط ببلدتنا، تخفت أيضاً حتى تبدأ حليمة بالغناء!

أنا يمني، وتحت وسادتي يتكوّم الألم، فيبقى الأرق مقيماً لا يرحل، تجثم على صدري جثث أحلامي الصرْعَى منذ ألف سنة، منذ قدوم حارس الظلام متشحاَ سيفه الأعمى، وسكن في كهفه الذي تحوطه الأحراش من كل جهة، كانت قريتي النائية – كما هي قرى اليمن الكثيرة- تُغالب عدوان الظلام كل ساعة بتلك الأغاني المتموسقة مع مهرجان الصباحات المزدانة ببخور القرويات حين يتنفسن الحب! فتخال الطبيعة مشهداً يتوزع مهام الإطراب؛ للعين، والأذن، والعقل، والروح، والقلب، ليس وجهي الشاحب أيها العرب سوى، آثارغبار معركة عمرها ألف سنة، مع حارس الظلام المتشح سيفَه الأعمى، كنت وحيداً في معركتي بينما اكتفيتم بالتحديق بوجهي القمحي الداكن.

أنا يمني، رسم التاريخ في باطن كفي خارطة الكون، ونقشت أحماله على كتفي أوجاع الثقلين، وتدلى القمر على صدري كجمانة مضيئة، يستقي عصارة جسدي المنهك فيزداد ألقاً كلما تصبّبتُ شِعرا، من هنا تضوّع عطري للعالم، بنكهة القهوة والبن المُحلّى بعرَقِ الأرض، لا أحلى من بن كانت تجود به أشجار قريتنا، كفصوص الياقوت الحميري الأصيل، يختزن سُكّرَه داخل لحائه ذي الرائحة الساحرة؛ فلا تحتاج لمكعبات السكر للتحلية ؛ مذاق سماوي لا مثيل له وإن طُفْت العالم، لا زلت أذكر "أبو عقلين"، ذلك الريفي الأصيل وهو يتباهى ببنّه المُحلّى بالبُن نفسه، ويتغنى بأغنية الطرب اليمني التراثي ملوحاً بفنجان القهوة : بُنّ اليمن يا دُرَرْ يا دُرَر، يا كنز فوق الشجر، من يزرعك ما افتقر، يا سندس أخضر؛ مطرز بالعقيق اليماني.

أنا يمني، وتحت وسادتي يتكوّم الألم، فيبقى الأرق مقيماً لا يرحل، تجثم على صدري جثث أحلامي الصرْعَى منذ ألف سنة، منذ قدوم حارس الظلام متشحاَ سيفه الأعمى.

أنا يمني، سقيت شجر الرمان من رحيق العسل الدوعني، فصار آية على أن ثمار الجنة حقيقة لا خيال، يحدثني عربي جال عواصم أوروبا والعالم فقال: ما طعمتُ ألذ من رمان "صعدة"، ولا ألذّ من عنب "صنعاء" أومن مَوز "شرعب" أو بُن "العُدين" أو أحلى من عسل "دَوْعن" ولا ذقتُ أحلى من حَبْحَب – بطّيخ – "مأرب" ولا بطاطا "الربادي" ولا ذُرَة "السّحُول" ولا مشمش "الشراعي" وتينها العسلي.

قلت كفى يا صديقي لا تنس أنني في غربة قسرية عن الجنة ، هل يُعقل أن نترك الجنة لشيطان؛ لا يجيد سوى التغوّط على مروجها وخمائلها؟ الشيطان حين يستولي على الجنة، تتحول – من فرط غيضها – إلى جحيم؛ أو كومة قش، ثم تصرخ عصافيرها فينا غاضبة: كيف سمحتم لهذا المسخ أن يلطِّخ هذا الجمال؟!

أنا يمني؛ لا أجيد الضجيج مهما كنت حاضرا في مشاهد صناعة التاريخ، كان أجدادي في مسيرة الفتوحات يقرعون أبواب فرنسا ولم ينتبه لهم أحد، تزدان رفوف المكتبات بمؤلفات عباقرة منهم، في كل فن حتى في الجغرافيا والرياضيات والحساب، ولم ينتبه لهم أحد، كان أجدادي يخوضون تجربتين ليستا متشابهتين سوى بالهدف، تجربة في الغرب وأخرى في الشرق الأقصى.

فهناك في أسبانيا وبلغاريا فتوحات بحد السيف، وفي الشرق تكفّل تجار اليمن فتوحاته بالمعاملات والأخلاق لا غير، شعوب إندونيسيا وماليزيا لا تزال تعتمر الكوفية وتلبس الفوطة الحضرمية حتى اليوم، ولا تزال الأسماء الحضرمية حية مشتهرة، لقد صارت إرثاً حضارياً ضمن نسيج المجتمعات هناك، ذلك التميُّز لم يؤثر على التماهي والذوبان في البيئة الحاضنة.

شعوب الشرق الأقصى تلك لم تغادر باحات المساجد حتى اليوم، بينما نصبت أسبانيا ومِن ورائها أوروبا محاكم التفتيش الوحشية، وسلخت أحفاد الفاتحين فيها كالشياة، ما الذي جعلني أتذكر كل ذلك وأنا لست شغوفاً بالاطراح على بوابة التاريخ لأستجديه مجداً بلا استحقاق؟… لا أدري!
 

أنا يمني، أحمل في غربتي جواز سفر مستباح، وبين دفتيه يقبع وطني، أفتح جواز السفر لأشم بقايا عبق التراب ثم أضعه في جيب ثوبي الأيسر جوار القلب، كي يسكن وَجِيبُه فلا يسكن، فترسل أحداقي رسائلها الحزينة علّها تعانق بقايا تراب وطن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.