في يوم الخميس، 13 نيسان (أبريل)، ألقت الولايات المتحدة أكبر قنبلة غير نووية في تاريخها على ما قيل إنه "هدف" يتحصّن فيه تنظيم الدولة (داعش)، في إقليم آشين بولاية نانغرهار شمال شرق أفغانستان، قرب الحدود مع باكستان، وأشار مسؤولون أميركيون فوراً إلى القنبلة بـ "أمّ كل القنابل" (Mother of All Bombs)، وهي محاكاة ساخرة للحروف الأولى من اسمها الحقيقي (Massive Ordnance Air Blast) "سلاح تفجير هوائي هائل". ما حكاية "الأمّ" الجديدة؟
تزن هذه القنبلة 22,000 رطل أو 10,000 كيلو غرام (أثقل من القنبلة التي أُسقطت على هيروشيما)، وتعادل قوّتها التدميريّة 11 طنّاً من مادّة تي إن تي (كانت قوّة القنبلة النووية التي أٌلقيت على هيروشيما 15 طنّاً من تي إن تي) ، ويبلغ طولها 30 قدماً (9 أمتار)، وتكلفتها نحو 16 مليون دولار، ويصل قُطر التفجير إلى ميل واحد في كل الاتجاهات. تنفجر القنبلة في الجو قبل ارتطامها بالأرض بلحظات (نحو 6 أقدام من الأرض). أهم خصائصها أنّها تُحدث "ضغطاً مفرطاً" في الجو، أي ارتفاعاً مفاجئاً حادّاً في ضغط الهواء، الأمر الذي ينتج عنه موجات ضغط في الاتجاهات كافّة. كل الألغام، الأنفاق، أو الجثث، سيتعذّر تمييزها بعد الانفجار. صُمّمت القنبلة أصلاً كسلاح نفسي لإرعاب العدو، من أجل دفعه إلى الاستسلام.
ربّما ظنّ ترمب أنّ إسقاط "أمّ القنابل" سيمكّنه من كسب الحرب في أفغانستان، أو تغيير قواعد اللعبة، بحسب تعبير بنجامين، التي تتساءل: "ماذا سيحدث عندما يصبح واضحاً أنّ القوة الجويّة وحدها ليست كافية"؟ |
مسؤول أفغاني أبلغ صحيفة "النيويورك تايمز" (18 نيسان/أبريل) أنّ القنبلة قتلت 96 من أعضاء "داعش"، بالرغم من أنّ هذا المسؤول "لم يقدّم دليلاً على القتلى أو معلومات عن طريقة التوصّل إلى الرقم 96". أحد السكّان أبلغ برلمانيّاً من نانغرهار: "لقد نشأت في الحرب، سمعت أنواعاً مختلفة من الانفجارات خلال 30 سنة، هجمات انتحاريّة، زلازل، تفجيرات، لكن لم أسمع قط بشيء كهذا". بلغت سَعَة الحفرة التي أحدثها الانفجار 300 متر، وكل من كان على مقربة منها "تبخّر". تحفّظت واشنطن عن الإدلاء بأيّ معلومات عن نتائج إسقاط القنبلة. "أنا وآخرون لدينا هذا القلق—-لماذا لا تسمح القوات الأميركيّة لأيّ شخص بزيارة موضع القصف؟ هكذا أبلغ ذبيح الله زماري، عضو مجلس مقاطعة نانغرهار، "النيويورك تايمز".
في 24 نيسان (أبريل) سردت صحيفة "نيويورك بوست" آثار القصف: سفوح جبال متضرّرة، أشجار محترقة، ومبان من الطوب الطيني مدمّرة. لكنّ الصور والفيديوهات لا تُظهر حجم الأضرار البشريّة التي خلّفها القصف. وزير الدفاع الأميركي، جيمس ماتيس، أبلغ الصحافيين أنّ القوات الأميركية "لن تحفر في الموقع لتحدّد عدد القتلى"، مضيفاً، "حفْر الأنفاق من أجل عدّ الجثث ليس على الأرجح استخداماً جيّداً لقوّاتنا". علي لطيفي، كاتب من كابول، أشار في مقال نشرته "النيويورك تايمز" إلى أنّ القوّات الأميركية حرصت على منع الصحافيين من زيارة موقع الانفجار مرّات عدّة بذرائع شتى: "العمليّة مستمرّة، داعش ما زالت موجودة، مقاتلوها هاربون، ثمّة ألغام أرضيّة، وفي النهاية، المنطقة صافية، ولم يُصب أيّ مدني" (20 نيسان/أبريل).
الفكرة التي مؤدّاها أنّ الجيش الأميركي يستطيع إخضاع العدو عبر قوّة جوّية ضارية، كتبت الناشطة الأميركية ميدي بنجامين، ليست جديدة، لكنّ التاريخ يروي لنا قصّة مختلفة. لقد أسقط الجيش الأميركي سبعة ملايين طن من المتفجّرات على جنوب شرق آسيا، ومع ذلك خسر حرب فيتنام. وتضيف بنجامين:
"في الأيام الأولى للحرب على أفغانستان، قيل لنا إنّ القوّة الجوّية الأميركية لا يمكن مقارنتها بالمتعصّبين الدينيّين من طالبان الأوباش، الفقراء، وغير المتعلّمين. في الحقيقة، رأينا بواكير "أمّ القنابل" تُستخدم بُعيد الغزو الأميركي في عام 2001. إنّها تلك التي سُمّيت "الأقحوان القاطع" (daisy cutter) نسبةً إلى شكل الحفرة التي تخلّفها (بعد الانفجار)، وتزن 15,000 رطل. الجيش الأميركي أسقط قنابل خارقة للحصون، زنة كل واحدة 5،000 رطل، من أجل تفجير كهوف في جبال تورا بورا، كان أسامة بن لادن يختبىء فيها، وقد كانت إدارة بوش تتفاخر أنّ هذه القوّة الجوّية المذهلة سوف تضمن زوال "طالبان". هذا كان قبل 16 عاماً، والآن لا يقاتل الجيش الأميركي "طالبان" وحدها، بل "داعش" أيضاً".
أمّ كل القنابل، قد تكون أمّ كل الأكاذيب، بحسب كتي. كيف يمكن لسلاح مدمّر كهذا أن يكون "جراحيّاً" ودقيقاً في منطقة يسكنها الآلاف من غير المقاتلين؟ كيف يتأكّد المسؤولون أنّ القنبلة تجنّبت الأطفال؟ |
ربّما ظنّ ترمب أنّ إسقاط "أمّ القنابل" سيمكّنه من كسب الحرب في أفغانستان، أو تغيير قواعد اللعبة، بحسب تعبير بنجامين، التي تتساءل: "ماذا سيحدث عندما يصبح واضحاً أنّ القوة الجويّة وحدها ليست كافية"؟ عضوة الكونغرس، باربرا لي، التي كانت الوحيدة التي رفضت تفويض جورج بوش باستخدام القوّة بعد هجمات 11/9، انتقدت ترمب لاستخدمه "أمّ القنابل" قائلة إنّه "مدين للشعب الأميركي بتفسير لهذا التصعيد…لا رئيس ينبغي أن يحصل على "شيك مفتوح" لخوض حرب لا نهاية لها، لاسيّما هذا الرئيس الذي يعمل من دون أي ضوابط أو رقابة من الكونغرس الذي يسيطر عليه الجمهوريون". "أمّ القنابل"، تقول بنجامين، لن تساعد الأمّهات الأفغانيات اللاتي "كثير منهنّ أرامل يكافحن للاعتناء بعائلاتهنّ بعد أن قُتل أزواجهن"، مضيفةً أنّ "الـ 16 مليون دولار، تكلفة هذا التفجير، كان يمكن أن تقدّم 50 مليون وجبة للأطفال الأفغان".
تستمر الإدارات الأميركية المتعاقبة في ممارسة العنف، ويعتقد رؤساؤها محقّين أنّ تصعيد هذا العنف سيرفع رصيدهم في الاستطلاعات. لكنّ الحصاد مرّ حتماً. العنف يولّد العنف، وللكراهية أسبابها: الظلم، الاستغلال، وقهر الشعوب عبر الانقلابات والحملات العسكرية. لا معنى لأن يتساءل أحد أعضاء الكونغرس: لماذا يكرهوننا؟ فقد يردّ عليه زميل له: لماذا لا يكرهوننا؟ فيصل كتي، الأستاذ في مدرسة القانون بجامعة فالباريزو بولاية إنديانا الأميركية، كتب في صحيفة "تورنتو ستار" الكنديّة (20 نيسان/أبريل) مقالاً عنوانه: "قصفات ترمب قد تُحدث أمّ كل القذائف المرتدّة" (مصطلح "القذيفة المرتدّة" (Blowback) يعني في الأصل الضغط الخلفي في محرّك داخليّ الاحتراق، أو غلّاية (boiler)، أو مسحوق البارود المتبقي بعد القذف التلقائي لخرطوشة مستهلكة من سلاح ناري، لكنه أصبح متداولاً في النقاشات السياسية بمعنى "العواقب غير المقصودة للسياسات الخارجية"، أو بتعبير البروفسور الأميركي الراحل، تشارلمز جونسن، "اختصار للنصّ القائل: إنّ أمّةً تحصد ما زرعت").
فيصل علي جابر، مواطن يمني، قُتل صهره، سالم أحمد جابر، في قصف بصواريخ "هِل فيَر" نفّذته إدارة باراك أوباما في أواخر آب (أغسطس) 2012. كان سالم إمام مسجد، في الأربعينيات من عمره، وعُرف بخطبه المعارضة لـ "القاعدة". كتب فيصل رسالة إلى أوباما جاء فيها: "لقد كان سالم خصماً لدوداً لتنظيم القاعدة، هل يستطيع الرئيس أوباما أن يشرح لنا إن كان قتْل سالم يجعل الولايات المتحدة أو اليمن أكثر أماناً؟….إنّ كلّ بريء تقتلونه يتسبّب بازدياد عدد من تحاربونهم…أنتم ستقضون بأنفسكم على أهدافكم في الحرب على الإرهاب".
كتب علي لطيفي في النيويورك تايمز عن القنبلة: "نحن نعرف وزنها وثمنها وتأثيرها ورقم طرازها… (غير أنّنا) لا نعرف شيئاً عن النّاس الذين قتلتهم سوى أنّهم مقاتلون تابعون لتنظيم الدولة الإسلامية. |
يعلّق كتي على رسالة جابر بالقول إنّها تتضمّن منطقاً يؤمن به الكثيرون في العالم الإسلامي حيث تنهمر القنابل أكثر مما ينهمر المطر. الأفعال الغربية لا تبقى "هناك"، بل سيُشعر بها "هنا" في الغرب. دراسات كثيرة أثبتت أنّ "الموت والدمار في العالم الإسلامي وسيلة تجنيد أساسية". الشباب الذين دِينوا بالتآمر لشن هجمات إرهابية في أونتاريو بكندا عام 2006، هزّتهم في الأعماق مشاهد المعاناة التي رأوها. وبحسب صحافيّة "تورنتو ستار"، ميشيل شيفارد، فإنّ أولئك الشباب "عارضوا الحروب في أفغانستان والعراق، غير واقفين ضد حريّات الغرب وحقوقه، ولكنّهم اعتقدوا أنّ تلك الحقوق لم تُطبّق بالمساواة على المسلمين".
"أمّ كل القنابل" قد تكون "أمّ كل الأكاذيب"، بحسب كتي. كيف يمكن لسلاح مدمّر كهذا أن يكون "جراحيّاً" ودقيقاً في منطقة يسكنها الآلاف من غير المقاتلين؟ كيف يتأكّد المسؤولون أنّ القنبلة تجنّبت الأطفال؟ هذه القنبلة، يضيف كتي، التي نزلت على "واحدة من أفقر بلدان العالم، وأشدّها اضطراباً، وأكثرها خراباً بسبب الحروب، ليست سوى برهان آخر على أنّ الإستراتيجية الأميركية في مكافحة الإرهاب قصيرة النظر، مبنيّة على افتراضات مشكوك فيها، وتنذر بتصعيد الصراع وتعميق الاضطراب داخل البلاد وخارجها". لن تمنع هذه القنبلة ولا مثيلاتها المهاجم القادم داخل أميركا، بل ستشجّع كثيرين على شنّ هجمات. وكما كتب عضو الكونغرس، دنيس كوشينيش: "لأنّنا اخترنا أن "نقاتلهم" هناك، فسوف نُضطر إلى أن "نقاتلهم" هنا. إذا جُبنا العالم بحثاً عن تنانين لنذبحها، فسيتبعنا بعضها إلى الدار".
ربما سيظلّ تأثير "أم القنابل" التي جرّبها ترمب في أفغانستان مجهولاً إلى الأبد. وكما كتب علي لطيفي في "النيويورك تايمز" عن القنبلة: "نحن نعرف وزنها وثمنها وتأثيرها ورقم طرازها… (غير أنّنا) لا نعرف شيئاً عن النّاس الذين قتلتهم سوى أنّهم مقاتلون تابعون لتنظيم الدولة الإسلامية، يسكنون الكهوف، ومن دون أسماء ولا وجوه. كان انفجاراً عالياً، أعقبه صمت عال. إنّها قنبلة جديدة تهبط على الأرض الأفغانية، ويبقى مستقبل بلدي غامضاً كما كان دائماً".
متى يتوقف سقوط القنابل؟ متى تدرك أميركا وحلفاؤها أنّ الحرب التي يشنّونها على ما يسمّونه "الإرهاب" هي أشدّ إرهاباً بآلاف المرّات من إرهاب الذين يقاتلونهم؟ كم من "قذيفة مرتدّة" تنتظرهم؟ لا بد للقصف أن ينجلي، ولا بدّ أن تتوقف نسبة القنبلة المتوحشّة إلى أم!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.