عفواً، لن نستعيد مشاهدها من وعاء ماضيك، فلنترك ما خلفنا خلفنا، ولننظر في ذكرى الطيبين، من صدقوا ما عاهدوا الله عليه، ذكرى من بشَّرَهُم اللهُ ببشراهم، ومن صدقوا الله فصدقهم.
بلال.. سابقُ الحَبَشَة كما وصفه نبيُّ الله، داعي السماء، ومُؤذِّنُ النبيْ، من هانت عليه نفسه في الله حتى ملّوه، من سَمِعَ النبيُّ صوت نعليه في الجنّْة، حقيقةً لم يُروَىَ في قصة إسلامه الكثير، ربما لأنها جاءت بسيطةً خالصة، فما نالت من صراعات القبلية شيئاً، وربما سبقها حِراكً داخلياً لفكرٍ واعٍ، مُتدبِّرٌ ما يَحدُث، وها قد فَطُن الى أن الأمر لم يكن بصحيح، واستقر إلى حقٍّ لم يكن له مؤشراً إلا بظهور النبي عليه السلام.
وإذ برسول الله يعتزل في غارٍ ومعه أبا بكرٍ، ويمر عليهما بلال وهو في غنم عبد الله بن جدعان يرعاها، فإذ برسول الله يُطلع رأسه الشريف من ذلك الغار فيقول: يا راعي هل من لبن؟ فيقول بلال: ما لي إلا شاة منها قوتي فإن شئتما آثرتكما بلبنها اليوم فيقول رسول الله: ائت بها. حتى إذا جاء بها دعا رسول الله بقعبه أو إنائه، فاعتقلها رسول الله فحلب في الإناء حتى ملأه فشرب حتى روي ثم حلب فسقى أبا بكر ثم احتلب حتى ملأه فسقى بلالا حتى روِيَ ثم أرسلها وهي أحفل ما كانت، ثم قال: يا غلام هل لك في الإسلام فأتى رسول الله فأسلم، وقال: أكتم إسلامك، ففعل، ويعود إليهما بلال على مدار ثلاثة أيام يسقيهما ويتعلم الإسلام.
أحدٌ أحد.. ذلك اللفظ المُتفرد الذي أباح به قلبه، ضوءٌ شقَّ سماء مكة عابراً كل ألم محتمل، حتى كان أذان الإسلام الأول، تغريدة صدقٍ تليق بمقام قلبه وعهده مع الله، صوت من السماء وإلى السماء. |
سبعةُ أوائلٌ أظهروا إسلامهم لله عز وجل: رسول الله وأبو بكر وعمار وأمه سمية وبلال وصهيب والمقداد، كان بينهم بلال، بمكانه كان أيٌّ مِنّا ظالٌّ على إسراره، إذ إنَّ الإسلام كان وليداً مهدداً مُحارباً، وبحالِهِ مملوكاً عبداً لا يملُكُ حق الفِعْلِ حتى يتمكن من حرية الإعتناق، .تعدّى حد توقُّعنا ليُظهر إيمانه جِهارا.
وما أراد بصدقه أن ينتهي عند ذلك الحد، فحينما عَلِمَ كُفار قريش من أمرهم، وأهمّوا بجمعهم وتعذيبهم، فكان رسول الله مانعهُ عمّه، وأبا بكر فمانعه قومه، وأمّا الآخرون فأُخِذَوا وأُلبِسوا دروع الحديد، ثمّ صُهروا في الشّمس حتّى بلغ الجهد منهم كل مبلغ، فما منهم إلا وقد أرضوهم بما أرادوا من الكفر وسب رسول الله _صَلَّى الله عليه وسلم_ إلا "بلالاً " فإنه هانت عليه نفسه في الله، تضاءلت نفسه أمام عينيه؛ فلم يبال بما أصابها في سبيل الله، سواءٌ عليه ضربوه أم سبّوه أم قتلوه، فكل ذلك عنده هيِّنٌ في جنب الله، وهانت نفسه على قومه فجعلوا في عنقه حبلا ثم أمروا صبيانهم أن يشتدوا به في شعاب مكة وعلى رمال صحرائها الموقدة، وهو يقول "أحدٌ أحد".
يُضجعون بلال على بطنه، ويعصرونه، ويقولون له قُل دينك اللات والعزى، وها هو بلالٌ يُعذِّبُه أمية بن خلف، فيخرج به إذا حميت الظهيرة، ويطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة على صدره، ثم يقول: "لا يزال على ذلك حتى يموت أو يكفر بمحمد"، فيأبى بلال ويقول: "ربي الله، أحدٌ أحد، ولو أعلم كلمة أحفظ لكم منها لقُلتُها".
شيء غريبٌ حدث! من أين أتى بذلك الجَلَدْ؟! كيف استمد قوتُه؟! وكيف واجه الى ذلك الحد؟! أعلم أن صدق أفكارنا وإخلاصنا لا يتعدى حدود القول إلى الفعل، إلا إذا لزِمهُ دوافعاً تُسَوِّغُ حُدوثه بتلك الكيفية وعلى مستوىً من القناعة والإيمان بها، متى تكوّنَت تلك المُبررات والدوافع، ربما الأمر أعظمُ من تصوُّري!! ربما وُهبُ إخلاصه لِصدق ما كان بقلبه، ربما ذلك الحراك الفكريُّ الذي دار في خُلد بلال، تدبّر فيه ما يحدُث، واستقر به الى الحق الذي واتته فُرصتَهُ ولم يبخل فى الانفراد بها والتضحية لأجله، مُجاهراً بالتوحيد تحت وطأة العذاب ولا يُبالي.
هي مسألة ثباتٍ وصدقٍ في سبيل الله، حينما أصر على إيمانه في أوج ضعفه، فكان قوياً كما لم يكن من قبل، وحينما حسُن إيمانه حتى يسمع رسول الله صوت نعليه في الجنّة. |
أحدٌ أحد.. ذلك اللفظ المُتفرد الذي أباح به قلبه، ضوءٌ شقَّ سماء مكة عابراً كل ألم محتمل، حتى كان أذان الإسلام الأول، تغريدة صدقٍ تليق بمقام قلبه وعهده مع الله، صوت من السماء وإلى السماء، وقُل ما شئت.
وتمضي الأيام، ويلحق النبي محمد بِالرَّفِيقِ الأَعْلَى، فيأبى بلال أن يؤذِّنَ لأحدٍ بعد النبي محمد، إلّا مرةً واحدةً ناشدوه فيها أن يؤذّن، فأذّن حتى بلغ قوله "أشهد أن محمدًا رسول الله"، فأجهش بالبكاء، ما استطاع أن يُتِمّ الأذان، ويذهبُ بلالً إلى أبي بكرٍ الصديق يسأله أن يأذن له بالمشاركة في الفتوحات، فيأبى أبو بكر، ويقول له: "أنشدك بالله يا بلال، وحرمتي وحقي، فقد كبرت وضعفت، واقترب أجلي"، فيُقيم معه حتى وفاة أبي بكر، ثم يأتي بلالً عمر بن الخطاب يستأذنه، فيأبى عليه، فيُصرُّ بلال، فيأذنَ لهُ فيخرُج إلى الشام.
ويُرابطُ بلالً في الشام حتى يرى النبي في منامه وهو يقول: ما هذه الجفوة يا بلال؟ أما آن لك أن تزورني؟ فينتبه حزيناً، ويركب راحلته، ويقصُدُ المدينة، فيأتى قبر النبي ويبكي عنده، ويُقبلا الحسن والحسين، فيضمهما ويقبلهما، فيقولان له: يا بلال، نشتهي أن نسمع أذانك. فيفعل، ويعلو السطح، ويقف، فيقول: الله أكبر، الله أكبر فترتج المدينة، فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله، فتزداد رجَّتها، حتى قال: أشهد أن محمدا رسول الله، فتخرُج العواتق من خدورهن، ويقولوا: بُعِثَ رسول الله، ما رُئي يوم أكثر باكيا ولا باكية بالمدينة بعد رسول الله من ذلك اليوم. "إسناده لين –في النبلاء للذهبي".
هي مسألة ثباتٍ وصدقٍ في سبيل الله، حينما أصر على إيمانه في أوج ضعفه، فكان قوياً كما لم يكن من قبل، وحينما حسُن إيمانه حتى يسمع رسول الله صوت نعليه في الجنّة فيسأله "يا بلال، حدثني بأرجى عمل عملته عندك في الإسلام منفعة؛ فإني سمعت الليلة خشف نعليك بين يدي في الجنة"، فيقول بلال: ما عملت عملاً في الإسلام أرجى عندي منفعة من أني لا أتطهر طهورًا تامًّا في ساعة من ليل ولا نهار، إلا صليت بذلك الطهور ما كتب الله لي أن أصلي، حسُنت معاملته حتى يقول رسول الله فيه: "نِعْمَ المرءُ بلال سيد المؤذنين يوم القيامة"، حسُن صوته الذي وافق إخلاصه فكان مؤشرا لراحة رسول الله والمؤمنين حتى يقول له نبي الله: قم يا بلال فأرحنا بالصلاة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.