شعار قسم مدونات

عندما رحلت أمي

blogs - أم عجوز
شاهدت البارحة بالصدفة مقطع فيديو لشاب تونسي في برنامج تلفزي يطلب من أمه أن تسمح له بالتبرع لها بكلية لأنها تعاني من قصور كلوي لكنها رفضت، كان يقبل يديها ويبكي ويطلب منها أن تقبل كليته لكنها كانت صامدة رافضة لعرضه لتخبره أنها لا تستطيع؛ ليس من أجله بل من أجلها، لأنها لن تتحمل ألم أن يفقد فلذة كبدها كليته لإنقاذ حياتها.. بكيت كالنساء وأنا رجل في الأربعين من عمري؛ لأن وجهها ذكرني بأمي التي رحلت منذ مدة. لم أقدم لها شيئا، كانت تعطي دون أن تنتظر المقابل، كانت كريمة بالفطرة وسيدة ترك رحيلها في قلبي وروحي ثغورا كثيرة لن يملأها إلا ثرى القبر.

كانت أمي تدللني كثيرا، تغسل ملابسي، تكويها، تقلم أظافري، تطبخ لي ما لذ وطاب، تفعل كل شيء من أجلي وأنا الذي أشرفت حينها على الثلاثين، يوم وفاتها لم أستوعب الأمر، لم أستوعب شيئا، كان الناس في خيمة العزاء يأتون واحدا تلو الآخر ويعانقونني، كان منهم الأهل والأصدقاء، أصدقاء الجامعة والطفولة، وكان منهم أيضا أشخاص لم أتعرف عليهم رغم أنهم كانوا يذكرون أمي باسمها ويعددون مناقبها أمامي. كانت رائحة الطبخ تتغلب على رائحة الموت في ذلك الْيَوْمَ، وكأن النسوة يطبخن يوم الجنازة ليذكرونا بأن الحي أبقى من الميت، وأن الحياة أقوى من الموت، فرغم بكائنا وتمرغنا حزنا على من فارقناه، مهما بلغت درجة الحزن بِنَا، ننسى ونأكل بشراهة وكأن شيئا لم يكن. 

غادر الناس الخيمة والبيت، خفف الأهل زياراتهم بينما كنت في الغرفة أتأمل. كانت جارتنا تحضر لي ثلاثة وجبات في الْيَوْمَ، كانت صديقة أمي. لم أكن قد استوعبت بعد فكرة الموت، كنت أنظر مطولا إلى السقف والغرفة، كان كل شيء مرتبا كما تركته. كانت أمي جداري الواقي من مطبات الحياة كلها، كانت الدرع الذي يحميني من الشمس والعنف والتساؤلات والجوع والحزن والبرد وكل شيء قد يشكل فراغا. كنت أسمع عن الموت لكنني لم أفقد شخصا ولا صديقا من قبل، حتى أبي لم يمت كما كانت تخبرني دائما عندما كنت طفلا، تعرف على امرأة أخرى ورحل عنا، كانت تخبرني دائما أن أدعو له أينما كان لأنه كان رجلا نبيلا. أخبرتني الجارة بأنه لم يمت وأنه كان نذلا.

أخبرتني أنها لا تريد أن أتعذب معها في المستشفيات في أرذل عمرها. قلت لها إنها لن تموت هكذا ببساطة ثم تابعت المباراة. كنت أظن أن الموت يزور كل مكان ما عدا بيتنا الصغير.

استيقظت يوم انقضاء إجازتي من النوم متأخرا، نظرت إلى الساعة اليدوية التي كنت أضع فوق الكرسي، لم أستعمل المنبه يوما، كانت أمي منبهي. صرخت بكل ما في رئتي من هواء "أُمِّي.. لماذا لم توقظيني.. لقد تأخر الوقت كثيرا" لم تجبني. فهرعت إلى غرفتها لأتأكد من وجودها، لم يكن هنالك شيء مطلقا غير سريرها المرتب فوقه قرآن وسجادة صلاة ورائحة البخور والعود تملأ المكان. تأكدت حينها أن أمي رحلت دون رجعة، تذكرت المعزين والجو الحار ورائحة الطبخ والبخور ودموع الرجال وبكاء النسوة. فتحت دولاب ملابسها وارتميت فيه كما يرتمي طفل في حضن أمه التي عادت إليه بعد غياب طويل، لكنني لم أكن طفلا كنت شابَّا شابَ فجأة عندما ماتت أمه، صرت أتحسس ملابسها بأنفي وألثم عباياتها وأبكي كالمجنون. كنت أصرخ وألطم كما لطمت النساء يوم الدفن.

أمي رحلت. ورحل كل شيء معها. حملت ملابسها كلها ووضعتها فوق السرير، عانقتها وأطلقت العنان لخياشيمي لتستجمع كل تلك الرائحة التي كانت تتميز بها. كان لها عطر غريب وكأن غدة في جسمها تصنعه خصيصا لها ليلائم شخصيتها وحنانها الدافق. رائحة القرنفل والخزامى وإكليل الجبل والحناء والزعتر والورد وكل شيء يبعث فيّ الحياة. كان عطر أمي الطبيعي هو ما يوقظني كل صباح للذهاب إلى المدرسة ثم بعدها العمل، كانت تضع يدها فوق رأسي قبل أن تفتح الستائر وتطلب مني بحنو دافق أن أستيقظ، كنت أتجاهلها تارة وأبتسم تارة وأصرخ في وجهها تارة أخرى. يا ليت صوتي أخرس قبل أن أصرخ في وجهك يا ملاكي.

تذكرت حملي لنعشها ذلك الْيَوْمَ رفقة الجيران وبعض أصدقائي، كنت في المقدمة، كاد رأسي ينفجر، بهذه السرعة رحلت يا قديسة؟ لم تري أحفادك ولا زوجتي بعد. أنت تمزحين. ربما لست أنت من في التابوت، أليس كذلك؟ يضع شاب يده في يدي ويعزيني ليذكرني بأنها في التابوت. لكن لماذا يا أمي؟ وعدتني ألا ترحلي حتى يتخرج أولادي من الجامعة ويتزوجون؟ لماذا أخلفت وعدك؟ لم أعهدك مخلفة للعهود يا حبيبتي. لكنك فعلت وأنا الآن سأدفن نفسي معك وسأعود شخصا آخر إلى البيت الذي ملأتيه بالحياة فكيف سيكون بدونك؟ أتعلمين أن الجدران والأبواب والستائر التي طرزتها بيديك تبكي. كل شيء يبكي.

كانت تسألني أن أساعدها أحيانا وأحضر شيئا من عند البقال، أخبرها أنني آت لأنغمس فيما كنت أفعله، أتوجه بعدها إلى المطبخ لأجدها تنزع جلبابها وقطرات العرق تتصبب من جبينها بعد أن تكلفت نزول وصعود ثلاثة وعشرين درجا وأحضرت حاجتها من الخارج دون أن تسألني مرة ثانية. كانت الذكريات تمر أمامي وكأنها حدثت أمس وأبكي. عانقت ملابسها كلها وكأني كنت أبحث عن جزء منها لم يسرقه التابوت مني لكن لم أَجِد سوى صدى الذكريات يصفعني دون رحمة.

مرة أخبرتني أنها تتمنى الموت وهي في كامل عافيتها، لم أنتبه في بدء الأمر لأنني كنت أتابع مباراة كرة قدم على التلفاز بينما كانت تطرد الأحجار الصغيرة والشوائب من صينية العدس التي كانت بين يديها، هكذا كانت، لا تستطيع ألا تشغل نفسها بشيء، ارتد اسم الموت في دماغي لوهلة، أوقفت البث لأسألها لم، أخبرتني أنها لا تريد أن أتعذب معها في المستشفيات في أرذل عمرها. قلت لها إنها لن تموت هكذا ببساطة ثم تابعت المباراة. كنت أظن أن الموت يزور كل مكان ما عدا بيتنا الصغير. لكنني كنت مخطئا للغاية.

كانت تبكي وتردد "أنت سبب وجودي في هذه الحياة، لا تفجع قلبي فيك مرة أخرى يا كبدي.. لا تفعل أرجوك".. لكنك فجعتِ قلبي فيك يا أماه.

حملت بعضا من ملابسها وتوجهت إلى غرفتي التي كانت غرفتها فيما مضى لكنها تنازلت لي عنها لأنها أوسع وأجمل وبعيدة عن الضجيج. أغلقت النافذة وانغمست في الذكريات لأهرب من الواقع الذي كاد أن يسكت قبلي وفتح فجوة التهبت كالجمر في حلقي. كنت طفلا تخرجني كل يوم بعد أن تنهي خياطة فساتين زبوناتها وتشتري لي البوظة، تشتري لي كل شيء طلبته منها، حتى الأشياء التي لم أكن أطلبها كانت تشتريها. كانت ترافقني يوم اجتماع مجلس الآباء في المدرسة، كانت الستّ الوحيدة بينهم، لكنها في نظري كانت أمي وأبي، كانت كل شيء. أعود من المدرسة وبعد الأكل والتمارين تطلب مني أن أستظهر عليها ما حفظت، كانت توقفني عند تعثري وتطلب مني أن أراجع جيدا. كانت تقوم بذلك إلى أن عرفت أنها لا تعرف القراءة عندما بلغت من العمر ستة عشر سنة.

تذكرت كل شيء تقريبا، حملها لي كل يوم على ظهرها وأنا في العاشرة من عمري بعدما كسرت ساقي في مباراة كرة القدم، قدومها لغرفتي وتغطيتها لي كل ليلة في جوف الليل، كانت تخبرني أنها عندما تشعر بالبرد تقوم من فراشها وتضع غطاء إضافيا علي، تشجيعها لي وأنا أقدم قصيدة على خشبة مسرح المدرسة في عيد الاستقلال، كانت تبكي، دسها للنقود في جيوبي وأنا مراهق عند خروجي مع أصدقائي رغم أنها أعطتني المصروف سالفا، كيها لملابسي كلها، شراؤها أول دراجة هوائية وأول مذياع وتلفاز وحذاء رياضي حقيقي وأول بذلة أثناء تخرجي، وأول حاسوب رغم أنها كانت خياطة فقط ولا دخل قار لها، كنت تفقر نفسها لتغنيني وتبتسم ملء شدقيها كلما رأتني، كنت حلمها الذي يتحقق وعزاءها في حياة ظلمتها كثيرا.

تذكرت ليلة حصولي على البكالوريا، وزعت الصدقات والحلويات على الأطفال، كانت تعانقني وتبكي، استيقظت ليلا على صوت غريب لأجدها تصلي داخل غرفتها وتبكي شكرًا لله الذي أنعم عليها بي، لكنها لم تكن تعلم أنها كل نعمي. مرة فرغ الهاتف من الشحن وأنا في المكتب، تأخرت كثيرا لأعود متأخرا إلى البيت، عانقتني وهي تبكي وتلمس وجهي لتتأكد من عدم إصابتي بمكروه، كانت تبكي وتردد "أنت سبب وجودي في هذه الحياة، لا تفجع قلبي فيك مرة أخرى يا كبدي.. لا تفعل أرجوك".. لكنك فجعتِ قلبي فيك يا أماه… ظلت تبكي حتى نامت على كتفي كالطفلة، حملتها ووضعتها على سريرها. لأول مرة أكتشف أنني صرت شابا قادرًا على حمل أمه وأنها أصبحت متقدمة في السن. قبل إطفاء نور المطبخ وجدت العشاء موضوعا فوق الطاولة بعناية. كانت تنتظرني المسكينة لكنها لم تتناول شيئا.

عانقت ملابسها العذبة، جعلت منها وسادة وغطاء، أغمضت عيناي وغرقت في حلم جميل كانت تضحك فيه وتمسح على رأسي. كانت تخبرني أنني سبب سعادتها أما أنا فكنت أحيطها بذراعي وأذرف الدمع وأتمنى ألا أستيقظ من الحلم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.