شعار قسم مدونات

جاهليون.. مستفزون لأخلاقنا

blogs-KKK
حُقَ لِمن كان ذا عقلٍ حصيفٍ أن يُبصِر نفسه من موقعه، ونحنُ نُبصِرُ أنفُسَنا كل يومٍ نرقى الأعالي، العالم يكدح عندَ انبِلاج كلِ صُبح بِحُجة تسهيل الحياة وتحقيق مزيد من الترف. عالمُنا أصبح شبيها بمنزلنا الصغير، نعرف عنه دقائق الأمور، وكلَ يومٍ زِيدَ زادتْ معرِفتُنا به. بنينا الحضارة، وكُلٌ مُجمِعٌ على أنّ العالمََ ما شُوهِد في هذا الأوج مِن قبل، وغداً لا شكَ أكثر تحضراً من اليوم.

لكن؛ بِخَطٍ مواز وذراعاً بِذراعٍ يَمشي سهمُ هذه الحضارة مع سهم التردي الأخلاقي، وتُقَوَض قمةُ القِيَم على صرح الحضارة المونِقة. في كل صباح نستيقظ على خبر اكتِشاف جديد يُطبِل له العالم، وتُدَقُّ له الطبُولُ فرحاً، وبعدها تَتْرى أخبار الفضائح الأخلاقية بالعشرات كَمن فَكَّ خيط عقد منظوم فانهالت جواهرُه حتى لم يَبْقَ إلا الخيطُ الجامعُ! وقد كان ابنُ خلدون مُحِقاً حين أقرَّ بأن الحضارة غايةُ العمران ومؤذنَةٌ بالتوحُش.

ألا تتحرَّجين أبداً وأنتِ تتَشَدَّقين بالحضارة والتفتح، حين تسمعين أن هندا بنت عتبة بعقليتها الجاهلية قالت مُوَلْوِلَة مُتَعَجِبَة ويدُها على رأسها حين نزلت ﴿وَلا يَزْنِينَ﴾: أوَ تَزني الحُرة؟!

قد أخطأ مَن زَعَم بأن القيَم والأخلاق تخُص قوما دونَ قوم، أو هي لبيئة دون أخرى لاعتبارات مرسومة قد تغيبُ وقد تحضُر، بعيدا عن أطروحة "نيتشه"، حين زعم بأن الحديث عن الأخلاق لا جدوى منه حينَ نضع الدين جانِبا، وبعيدا عن: هل تقوم الأخلاق على أساس ديني أم أن الدين يقوم على أساس أخلاقي؟ ومِن أين تُستَمدُ الأخلاق؟ بعيدا عن كل هذه الأطاريح والتساؤلات؛ نُقِرُ بأن القيم لا زالت تُشكِل مقياسا تُقاس به الأشخاص والأمم والشعوب.

دونالد ترامب كان نجاحُه مُهددا في الانتخابات الرئاسية للولايات المتحدة الأمريكية بعد كشف فضائحه الأخلاقية، وبيتُ الفيفا زُلزِل بعد كشف اختلاسات مالية عبثت بها أيادٍ. يظل ميزان القيم قائما، لا ندري أبِوَعْيٍ أم بِلا وعي جمعي مُتحكِم؟! أم أنَّ -وهذا الراجح- التشوفَ للمناصِبِ يفرِضُ على آخَرين تتبُع العَوراتِ لا غير؟! ومُذ عقود قال "السيد قطب" رحمه الله: "تقفُ البشرية اليوم على حافة الهاوية، لا بسبب التهديد بالفناء المُعلَق على رأسِها… ولكِن بسبب إفلاسها في عالم القيم التي يُمكِن أن تنمو الحياة الإنسانية في ظلالها نموا سليما وتترقى ترقيا صحيحا". نعم؛ ولا زالت تقِف، إن لم نقُل بدأت تتردى حقا.

وإنا لنأسفُ أشدَ الأسف، والقلبُ مَحْزوزٌ مكْلومٌ حينَ نَدَّكِرُ أنَّ أقواما عاشوا في بيداء قاحلة جِوارَ الأوابِدِ، لم يَعرِفوا مِن حضارَتِنا ولم يعيشوا مِن تَرَفِنا شيئاً، سُمُّوا بالجاهليين، وصُوِروا دائما في الحضيض إلا منَ الفصاحة والبيان. ألا يَستَفِزُنا نحنُ المُتَحَضِّرين حينَ نُجْمِعُ على أمْرٍ يخُص حاضِرتنا مِن بِناء مسجِد أو عمل خيري، نستدعي له أموالا بلا قيد ولا شرط؛ إن أولئكَ الجاهليين راموا إعادة بناء الكعبة وتعاقدوا أن لا يُدْخِلوا في بِنائها إلا طيباً، فما أدخلوا فيها مهر بغيٍ ولا بيع ربى، ولا مظلمَة أحَدٍ من الناس.

ألمْ تُخدَش نفسِيَتُكَ يا صديقي المُتحضر المثقف، المتأبِط كتاباً على دوامِك، وكلُ عهودك مخرومة؛ حين عَلِمتَ أن "السموأل بنَ عاديا" الجاهلي ذُبِح ابنه، فلذَةُ كبِدِه أمام ناظِرَيه، وكان بِإمكانه أن يُسَلِم أمانة امرئ القيس للحارث الغساني ويخون عهدَه مستَأمِنا نفسه وولدَه، لَكِنَّهُ وَعَى بأنَّ الوفاء بالعهد أثقل وأرسخ. حِينَ نَمْشِي في الشَّوَارِعِ المُتَحَضِّرَةِ الفَسيحَةِ المُنيرَةِ مُتَنَاسِينَ قَولَهُ: ﴿قُل لِّلمُؤمِنينَ يغُضُوا مِن أبْصارِهمْ﴾ ﴿وَقُل لِلمُؤمِناتِ يغضُضْنَ مِن أَبْصَارِهِنَّ﴾ يُطِلُّ عَلَينَا عنترةُ الجَاهلي الذِي لَمْ يُدرِكْ هَذِه الآيَاتِ أَصْلا يَتَرَنّمُ: وَأغُضُّ طَرْفي مَا بَدَتْ لي جَارَتي حتّى يُوَارِي جَارَتي مَأوَاهَا.

"تقفُ البشرية اليوم على حافة الهاوية، لا بسبب التهديد بالفناء المُعلَق على رأسِها… ولكِن بسبب إفلاسها في عالم القيم التي يُمكِن أن تنمو الحياة الإنسانية في ظلالها نموا سليما وتترقى ترقيا صحيحا"، "سيد قطب"

أَلا يَسْتَحْيِي العَالَمُ المُتَحَضِّرُ مِنْ هَذَا الظُّلْمِ المُسْتَشْرِي، وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ قبَائلَ مِن قُريشٍ في الجَاهلِيةِ تَعَاهَدُوا أَن لا يَجِدُوا بِمَكّةَ مَظْلُوماً كَيفَ مَا كَانَ إِلا قَامُوا مَعَهُ وَكَانُوا علَى مَنْ ظَلَمَهُ حتَّى تُرَدَّ عليهِ مَظْلَمَتَهُ، وَقَدْ شَهِدَهُ رَسُولُ اللهِ قَبْلَ بِعْثَتِهِ فَقَالَ: (لَقَددْ شَهِدْتُ في دَارِ عَبْدِ اللهِ بن جَدْعَان حِلْفاً مَا أحِبُ أَنَّ لي بِهِ حُمُرُ النعَم، وَلَو أُدْعى بِه في الإسْلامِ لأجَبْتُ). نحنُ المُتحضرين المُترَفين مُكَدِّسي الأموال في البنوك الضَّانِين بها على كلِ طارِقٍ بابَنا؛ ألا نخجَل من أنفسِنا حين نَسمَع أن أعرابيا جاهليا كان لا يَملِك إلا ناقته، ذَكَّها لأضيافه دونَ أن يُفكِر لعيلَة أو يَخشى فقراً.

ألا تتحرَّجين أبداً وأنتِ تتَشَدَّقين بالحضارة والتفتح؛ حين تسمعين أن هندا بنت عتبة بعقليتها الجاهلية قالت مُوَلْوِلَة مُتَعَجِبَة ويدُها على رأسها حين نزلت ﴿وَلا يَزْنِينَ﴾: أوَ تَزني الحُرة؟! عندما يأخذنا الغضب من تلابيبنا، ونَسْتَشِيطُ على أبسَطِ الأمور سبا وشتما، إن لم يَكُن ضربا وقِتالا، وننْعَتُ بَعضَنا بحمية الجاهلية، وننسى أن منهم الأحنف بنَ قيس مُستَفزا لحِلمِنا وعفونا. هم كثيرون، جاهليون -أو هكذا سمَّيناهم- استفزوا حضارَتنا وثقافَتَنا ورُقِيَنا وترفنا وأوهنوها حتى ما عادت تُرى. وهل الإنسان إلا قِيَمُه؟!

ورحم الله أمير الشعراء حين قال: إِنَّمَا الأُمَمُ الأَخْلاقُ مَا بَقِيَتْ فَإِنْ هُمْ ذَهَبَتْ أَخْلاقُهُمْ ذهَبُوا
بهذا علِمنا لِمَ قال صلى الله عليه وسلم: ((إنما بُعِثتُ لأتمم مكارم الأخلاق))؟! وعلِمنا لِمَ مدح ربُنا نبيَه بأخلاقه خصوصاً؛ دون أي صفة خِلْقِيَةٍ أو عَرَضِية فقال سبحانه: ﴿وَإنّكَ لَعَلى خُلُقٍ عظيم﴾. للهِ دَرُّكَ يا بنَ خَلْدُونَ، فَإنَّ الحَضَارَةَ فِعْلاً مُؤذِنَةٌ بِفَسَادِ العُمْرَانِ والتَّوَحُش، وَعُذْراً نِزَار القباني؛ فَإنَّا لَمْ نَلْبِسْ ثَوبَ الحَضَارَةِ عَلَى رُوحٍ جَاهِلِيةٍ، بَلْ عَلَى رُوحٍ مُتَوَحِشَّة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.