كنت أحب الشِعر منذ أن عرفت الحب، رغم أني لم أجد بيئة خصبة في بادئ أمري، إلا أنني كنت أبحث في مكتبة والدي المليئة بكتب التفسير، والحديث، والمراجع الفقهية التي لم أكن أبحث فيها عن مسألة فقهية، ولا عن حديث، ولا عن فكرة أو فلسفة، كنت أبحث عن بيت من الشعر، أي بيت سيفي بالغرض، أقلب الصفحات بسرعة فائقة وأتوقف عندما أجد كلاما يشبه الشعر، وكنت في الغالب أصطاد بيتا أو بيتين في كل رحلة صيد أخوضها في مكتبة والدي، وبعد ذلك تحول الصيد إلى أشرطة "الكاسيت" لا سيّما أشرطة الشيخ إبراهيم الدويش وعلي القرني وعائض القرني، كانوا يستشهدون بالشعر كثيرا.
وأذكر أن والدتي ذات يوم لاحظت انهماكي الشديد على محاضرة للشيخ إبراهيم الدويش، وكنت أوقف الشريط باستمرار لأسجل كل بيت يتلفظ به، ثم أستأنف بعد ذلك، فسألتني: ماذا تكتب؟! قلت لها: أكتب الأشعار التي يقولها الشيخ يا أمي؟!
والدتي: أشعار؟! وماذا تفعل بالشعر يا ولدي؟!
كانت هذه البداية، وكانت علاقتي بمدرسي اللغة العربية علاقة متميزة، حتى إن زملائي في الإعدادية كانوا يسألونني دائما: هل أستاذ عبد الله يوسف -وهو أستاذ اللغة العربية- قريبك؟! كان الأمر أشبه بالقرابة، غير أنها كانت قرابة من نوع آخر، كنت على وفاق مع اللغة العربية، ومع مدرسيها، وكل مادة لها علاقة بها، وكان استهتاري واضحا تجاه المواد الأخرى، وطالما أحب صديقي السمي "عبد الوهاب عمر" أن يلقبني بالأديب، أؤكد لكم، كان ذلك من باب التشجيع، كان الطلاب إذا تناولوا مسألة في العلوم أو المواد الأخرى في نقاشهم نظروا إلى مداخلاتي الخنفشارية بنظرة شفقة وازدراء مجتمعين، أما إذا تناولوا شيئا من علوم العربية أنصتوا إلي إنصات إجلال، يمكنكم القول إنني كنت طالبا هجينا، مستهترا بليدا في آن ونابغة في آن آخر.
لحظة! يبدو أنني بدأت بذكر تفاصيل قد تبدو للناس أنها على سبيل التبجح، للأسف لا يوجد ما يدعو إلى ذلك، لأنني أتحدث في هذه اللحظة عن تجربة شخص كان يفترض أن يكون شيئا في العربية، أحدثكم يا أصدقائي عن شاعر أجهض في رحم أمه، عن أديب حكم عليه بالإعدام مدرسيا ومجتمعيا، عن رجل لم يستثمر في شغفة بالقدر المطلوب، ولي أصدقاء يحبون تشجيعي، لكني اليوم أريد أن "أخرج" هذا الفيلم بالكاميرا التي هي من زاويتي.
اكتشفت مؤخرا أن مشكلتنا الكبرى لم تكن قلة المصادر المعرفية، هي في الحقيقة كانت مشكلة قائمة، لكنها كانت أقل ضررا من غياب الدليل، أعني بالدليل هنا من يدلنا على طريق الشعر. |
عودا إلى الموضوع، عشت في بلدة لم يكن فيها من يحب الشعر، نعم كان هناك رجل يدرسنا المعلقات السبع في المسجد، وكان كلما افتتح حديثا حول معلقة امرئ القيس تعوذ من الشيطان وزهدنا فيما يدرسنا، واختار لنا من شعر الملك الضليل ما يحلو لرجل مثله أن يختار من شعر امرئ القيس، كان يعتبر الشعر وحلا لا مناص منه للوصول إلى الضفة الأخرى.
كنت وأنا في العاشرة من عمري أعتقد أنه لا ينبغي أن يدرِّس المرء شيئا يتأفف منه، كان الشِعر بالنسبة له الميقات، وكنت أرى أن الشعر ينبغي أن يكون هو الحجر الأسود، ورغم ذلك كان فارق السن بيني وبينه كالذي بيني وبين أبي، فلم يكن هناك ما يدعو إلى فتح باب النقاش، ولم تكن في بلدتي مكتبة واحدة تعتني بالشِعر، وبتعبير أكثر دقة، كانت المكتبة الوحيدة التي تستورد كتب الحديث والفقه والتفسير لا تعتني بكتب الأدب والشعر، أحدثكم عن بلدة تستورد كل شيء من الخارج، كل شيء حتى البيض، لم تكن هناك مصانع، وأجهزة الطباعة بالنسبة إليهم تعتبر مصنعا، وفوق ذلك لم يكن هناك اهتمام بالكتب الأدبية لا من قريب ولا من بعيد، والحصول على ديوان شعر في ذلك الوقت بالنسبة إلي كان بنفس صعوبة الحصول على طائرة خاصة بالنسبة إلي اليوم..
غير أن الأمر تغير قليلا في بداية الألفية الثانية وبعد ظهور الإنترنت، ولا أنسى صديقي الذي كان يشاركني حب الشعر، كنا نذهب سوية إلى مقاهي الإنترنت، وكنا نستمع إلى شيء من شعر الجاهليين بصوت الشيخ "عبد الرحمن الحمين"، وما أكثر ما تغنينا بشعر عمرو بن كلثوم، وبالتحديد هذين البيتين:
إذا عض الثقاف بها اشمأزت
وولته عشوزنة زبونا
عشوزنة إذا انقلبت أرنت
تشج قفا المثقف والجبينا
دون أن نفهم شيئا منه، كانت النغمة تستحق ذلك، وإن أنسى فلن أنسى ذلك اليوم الذي قابلني فيه صديقي مبتهجا ليقول لي إنه قرأ شرحاً لمعلقة عمرو بن كلثوم من الإنترنت، وطفق يشرح لي البيتين، كان ذلك شعورا جميلا، ولم يكن الإنترنت متاحا لكلينا بسبب الأسعار الغالية، والحصول على ساعة واحدة من الإنترنت يكلفنا دولارا واحدا، في زمن كان الدولار بالنسبة لكلينا مجموع ما ندخره خلال أسبوعين، وقد لا يتوفر ذلك في كل أسبوعين.
ما زلت يا صاحي أؤمل مهجتي عبثا وتظهر في الرؤى ريتاج.. ما زال في قلبي على ثغراته نغم ويرقص في حشاي سراج.. ويظل منتظرا لكي لا ينتهي سرد القصيد.. ونبضه الوهاج. |
كان الأمر بالنسبة إلينا شاقا، واكتشفت مؤخرا أن مشكلتنا الكبرى لم تكن قلة المصادر المعرفية، هي في الحقيقة كانت مشكلة قائمة، لكنها كانت أقل ضررا من غياب الدليل، أعني بالدليل هنا من يدلنا على طريق الشعر، شخص يعرف أكثر مما نعرف، يميز لنا جيد الشعر من رديئه، يعلمنا السباحة في خضم الأدب والشعر، نحتكم إليه كلما نختلف في مسألة ما "وما أكثر اختلافنا" كان ذلك وللأسف غائبا.
لقد افترقنا أنا وصاحب الشعر الأول في عام ٢٠٠٥م، لقد سافرت مع أهلي إلى كينيا ومن ثم إلى مصر، وسافر هو وحيدا إلى أميركا، هو في الغالب لم يعد يهتم بكبرياء عمرو بن كلثوم، لم يعد في الغالب يردد افتتاح الشيخ علي القرني المليء بالشعر، هو في الغالب لم يعد يضحك عندما يسمع اسم الحطيئة، لا أظنه يتذكر ما حدث بين علقمة الفحل وامرئ القيس، رغم أنه كان من يحكي لي ذلك، إنه على ما يبدو يعيش الحلم الأميركي دون أن يدندن ببيت من الشعر العربي، لعله حول نشاطه إلى الأدب الإنجليزي، ويحلو لي أن أعيد نشر أبيات كتبت فيه هنا، وأترككم كي نستكمل الحديث عن تآمر المدرسة والمجتمع وسذاجتي كلهم مجتمعين ضد ما كان ينبغي لي أن أكون.
بيني وبينك "حائلا"
أمواج ..
ومفازة يا صاحبي وسياج
ومساحة من فرط ما اتسعت على طول الطريق
تعذّر الإدلاج
هل راحة الذكرى تشد ركائبي نحو السماء؟!
وهل لنا معراج؟!
هل سوف يجمعنا مخافة سجننا قلق.
ليشرق بعده الإفراج؟!
ولأننا كنا سجيني نجمة تزهو
ويخلف وعده الإبلاج
كنا نسير ولا نسير على خطى تهدي..
ولا فرس ولا إسراج
كنا وكان الماء يشبه روحنا
ويعل من نسق الغرام فجاج
ما زلت يا صاحي أؤمل مهجتي عبثا
وتظهر في الرؤى ريتاج
ما زال في قلبي على ثغراته نغم
ويرقص في حشاي سراج
ويظل منتظرا لكي لا ينتهي سرد القصيد..
ونبضه الوهاج.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.