فيقول:
هززْتُ كلّ نخيلِ الفكرِ، فما سقطَتْ عليّ إلا عراجٌ منَ الهرمِ
لذلك يعيب إقبال على الحضارة الغربيّة أنّها تسلب الإنسان القلب، رغم بطر ووفور الفكر والعقل عندها:
فيقول:
حُورُ الغربِ ألقَتْ على الشرقِ شِباكا
يصرَعْنَ ذَا اللُّبِّ حتّى لا تَرى فيهِ حَراكا
ويرى إقبال أنّ الحبَّ الحقيقيّ عندما يستحلُّ السُّوَيْداءَ هو الذي يمنحُ الإنسانَ الفاعليّةَ والشجاعةَ والإقدامَ بعدَ الفكاكِ منْ قيدِ الفكرِ المُرْهِقِ، فيصيرُ زمام ُ قرارِهِ بيدِ القلبِ. |
لقد وضع إقبال هذه الحضارةَ الغربيّةَ على المشرح فما وجد فيها ما يحتذى به من حاجة الروح والقلب
فيقول:
فَتَّشْتُ هذي الحضارةَ كلَّها فلمْ أجدْ فيها غيرَ نافخِ كير
فتداركوا الشرقَ الذي يرنو لها، وليعلو شاعره بصوتٍ نكيرِ
ويرى أنّ الحبَّ هو رأس المال الذي حظي به الشرق، وعدّهُ الغرب من سقط المتاع، فهو يشبّه الحضارة الغربيّة بالحوريّة الحسناء، التي تأخذ بالعقولِ، وتسحر الألباب لكنّها في حقيقتها الفخ الذي يسلبك الحبّ والقلب، ويجعلك هيكلاً من طين خاوٍ.
فيقول:
ما عدَّهُ الغربُ سقطَ المتاعِ في مذهبِنَا رأسُ مالِ الظَّفَرِ
كما يرى إقبال أنّ الحبَّ هو اللغة العالميّة التي تفهمها الشعوب، وتلامس شغاف أرواحهم، وهي الأغنيّة التي تخترق القلوب من نافذة العيون، قبل نوافذ الأسماع، وتمدّ أواصر الإنسانيّة بين أبنائها، فمن لم يتقنها لن يستطع أن يتواصل مع أرواح الشعوب الظمئة لذلك المعين العذب
فيقول في شعره:
للحبّ أغنيّة، وما لغنائها لغة، ولا تحتاج للألفاظ
هي إن تكن أو لم تكن عربيّةً فكلّ السرِّ في الأَلْحاظِ
إقبال يرى أنّ لغة العيون هي لغة المحبّين، وهي أكثرُ فصاحةً من لغةِ الشفاهِ في التعبير عن المكنون، وهي مكمن الجمالِ، وليس الغناء وجمال الصورة
فيقول:
السرّ ليس بنغمةٍ أو صورةٍ السرُّ في دمعٍ ورقة عينِ
والعجيب أنّه يجعل القلب مكاناً لتلقّي واردات العين من الحبِ والطهر، وهي التي تبعث بشعاع الرّوح لينفذ إلى القلوبِ،
فيقول:
طُهْرُ العيونِ هوَ الحقيقةُ كلُّها والقلبُ في حضنِ العيونِ مريد
وهو قريب لما يقول ذلك الشاعر العربيَ:
إذا كلَّمَتْني بالعيونِ الفَواتِرِ رَدَدْتُ علَيْها بالدموعِ البَوادرِ
فلا يعلمُ الواشونَ ما دارَ بينَنَا وقد قُضِيَتْ حاجاتُنا في الضمائر
يسألُ إقبال، منِ الذي دفعَ إسماعيل لِيَبَرَّ أباهُ إبراهيمَ ويستجيبَ لأمرِ الذبحِ؟ أَتَعَلَّمَ هذا الحبَّ بالدِّراسةِ أمْ أنَّهُ حبٌّ نابعٌ منْ جِبِلَّةِ النَّفس! |
يميّز (إقبال) بين الحبِّ وتوهّمِ الحبِّ: فالحبّ الحقيقيّ الذي ينفذ إلى أعماق الروح، لا يمكن أن ينقلب إلى بغضاء وتنافر، على العكس منه، توهّم الحبّ الذي لا يتجاوز أسوار الحسِّ
فيقول:
إذا وجدْتَ القلبَ ثمَّ فقدْتَهُ فالحقُّ أنَّكَ ما وَجَدْتَهُ
والحقُّ أنَّك ضائعُ الخطواتِ منْ وهمِ تصدقِ ما ظننْتَهُ
ويرى إقبال أنّ الحبَّ الحقيقيّ عندما يستحلُّ السُّوَيْداءَ هو الذي يمنحُ الإنسانَ الفاعليّةَ والشجاعةَ والإقدامَ بعدَ الفكاكِ منْ قيدِ الفكرِ المُرْهِقِ، فيصيرُ زمام ُ قرارِهِ بيدِ القلبِ، و يصيرُ المُوَجِّهَ للقلمِ والسِّنانِ، فلا يزلُّ لَهُ يراعٌ، ولا يَنْبُو لَهُ سَيْفٌ.
يقول:
الحبُّ في الحرَمِ الشَّريفِ هوَ المُشَرِّعُ وَالفَقِيهُ
والحبُّ في ساحِ الجيوشِ هوَ المُقَدَّمُ وَالنَّبِيهُ
إنَّ الحريّة في فكر (إقبال) هي ومضةٌ تَشِعُّ منْ سراجِ الحبِّ، فالحبُّ هو الذي يطلقُكَ منْ قيودِ الهوى والمادَّةِ التي تَأْسِرُكَ، فلا بُدَّ لكلِّ سائرٍ في طريقِ الحريّةِ المظلمِ، منَ الاستصباحِ بشُعاعٍ منْ لهيبِ الحبِّ، وإلا استوحشَ ووقعَ في أسْرِ العبوديّةِ منْ جديدٍ:
فيقول:
طريقُ حريّةِ الأحرارِ مُظلمَةٌ تُضيئُهَا شعلةُ الرومي بالشَّرَرِ
فالحبُّ يسدُّ فاقةَ القلبِ، فيغدو صاحبُهُ كريماً غنيّاً عنِ البَشَرِ حُرّاً منْ أَسْرِ الأغيارِ، لأنَّ الحبَّ يدفعُهُ للعطاءِ، ويأبى عليهِ التَّسَوُّلَ
فيقولُ:
رَجُلُ الحُبِّ لا يَذِلُّ لِشَيْءٍ مُسْتِقِلُّ الفؤادِ، حُرُّ المِزاجِ
ليسَ يحتاجُ أوْ يخافُ مَليكاً إنَّما الخوفُ مظهرُ الاحتياجِ
كذلكَ يرى إقبال أنَّ الحبَّ هو الحافزُ إلى البذلِ والتضحيّة، بل إنَّ الحبَّ حينما يتمكّن من قلبِ صاحبِهِ فإنَّهُ يجعلُهُ يستلذُّ البذلَ والموتَ في سبيلِ محبوبِهِ، ويجودُ بكلِّ ما يملكُ، وشعورُ التقصيرِ ينتابُهُ، يجودُ بروحِهِ في سبيلِ حبِّهِ
فيقول:
من يا تَرى يسرى الذبيحَ لِبِرٍّ بعدَمَا كانَ قدْ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ
كثرَةُ الدرسِ أمْ نَباهَةُ نَفْسٍ إنَّ في ذلِكَ لَآياتٍ لِلضَّنِينِ
يسألُ إقبال منِ الذي دفعَ إسماعيل لِيَبَرَّ أباهُ إبراهيمَ ويستجيبَ لأمرِ الذبحِ؟ أَتَعَلَّمَ هذا الحبَّ بالدِّراسةِ أمْ أنَّهُ حبٌّ نابعٌ منْ جِبِلَّةِ النَّفس! لكنْ على كلتا الحالين: أنْ تجودَ بحياتِكَ لأجلِ منْ تحبُّ هي آية صدق لا بدَّ أن تهزّ البخلاءَ الذين لا يبذلونَ أيَّ شيءٍ في سبيلِ منْ يحبّونَ. كذلكَ حينَما يصفُ الفاتحينَ منْ جيشِ طارقِ بنِ زيادٍ وهمْ يركبونَ عُبابَ البحرِ يَنْشُدونَ غايتَهمْ
فيقول:
البحرُ حبَّةُ خَرْدَلٍ في كفِّهمُ وَالعِشْقُ في أرواحِهِمْ إِعْصارُ
ويرى أنّ الحبَّ هو رأس المال الذي حظي به الشرق، وعدّهُ الغرب من سقط المتاع، فهو يشبّه الحضارة الغربيّة بالحوريّة الحسناء، التي تأخذ بالعقولِ، وتسحر الألباب لكنّها في حقيقتها الفخ الذي يسلبك الحبّ والقلب. |
لكنَّ (إقبالاً) لا ينكرُ ما يكابدُهُ المحبُّ منْ بُرَحاءٍ وجراحٍ وآلامٍ، وما يجنيهِ عليه حبُّهُ من ضرامِ الأشواقِ، ولهيبِ الوجدِ، ولا ينفعُ المحبَّ أنْ يَهْرُبَ منْ قَدَرِهِ، فالحبُّ عندَمَا يخترقُ شَغافَ القلبِ لا مَرَدَّ لِقَدَرِهِ، ولا شفاءَ بهجرِهِ أو كِتْمانِهِ ونسيانِهِ، لكنَّ نهاية الحبِّ ستكونُ جميلةً حيثُ يبردُ اللهيبُ، فما منْ عَقَّارٍ يُبْرئُ المحبَّ إلا أنْ يتجرّعَ من ماءِ الوصلِ
فيقول:
نهايةُ الحبِّ أَحْلَى منْ بدايتِهِ وربّما صِحَّةُ الأجسامِ بالسَّقَمِ
إذا رماكَ فما للقلبِ من حِيَلٍ وإِنْ جُرِحْتَ فجرحٌ غيرُ مُلْتَئِمِ.
ويقول:
وإنَّه جرحُ سهمٍ إذا صبَرْتَ لَهُ أُوتِيتَ منْ جَعْبَةِ الصَّيَّادِ سُلوانا
لكنَّ إقبالاً يرى أنَّ المحبَّ عليه أن يعبّرَ عن حبِّهِ ولو وصلَ إلى درجةِ الوقاحةِ والسفاهةِ، فما ينفعُ معَ الحبِّ وقارٌ واتّزانٌ.
فيقول:
الحبُّ في قَحٍ يحلو، وفي سَفَهٍ، فكنْ بحبِّكَ في هذينِ كسيرا
ولا تكونَنَّ ذا حُبٍّ بلا سَفَهٍ فإنَّ ذلكَ لا يُجْديكَ قِطْمِيرا
لا يمكنُ أن تنْعُمَ بشيءٍ ما لم تفهمْ فلسفتَهُ، وفي فلسفةِ إقبالٍ للحبِّ عبورٌ من وَحَلِ الشقاءِ إلى جنَّةِ النعيمِ، ومن عذابِ الوَجْدِ إلى سعادةِ الروحِ، ولازالَ في دُرَرِهِ المكنونةِ الكثيرُ منَ الكنوزِ، تحتاجُ للتنقيبِ والغوصِ في معانيها ومراميها.