"استيقظ جريجور سامسا ذات صباح بعد أحلام مزعجة، فوجد نفسه قد تحول في فراشِه إلى حشرة هائلة الحجم". المسخ، فرانز كافكا
في كل صباح يستيقظ الإنسان العربي بعد أحلام مرعبة، وهذا ليس جديداً بالطبع، يسير كالنائم ليدخل مصفوفة الإفك متعددة الأبعاد والألوان، ويخرج منها منهكاً ليعود إليها بعد برهة كثور مسخ معصوب العينين، في دوران لا ينتهي.
وفي سوق "الإفك" المفتوح كفوهة بركان في عالمنا العربي، ستجد أنواعاً لا تعد ولا تحصى منه: التنمية البشرية والطاقة، اللياقة البدنية ومؤخرة كيم كاردشيان، المتع العمياء وقدم ميسي، وسفينة "الأعور الدجال" التي يقودها مارك زوكربرغ، والتي نجحت في تطبيع العنف والكراهية والكذب، بحيث صرنا نرى المقتلة تلو الأخرى دون أن يرف لنا جفن، ودون أن يخالجنا أدى ألم لإنسانيتنا المجروحة.
وفي هذه السوق أيضا تتقاطر مواكب الزعماء للقاء ترمب عراب هذا السوق وسيده، وتتقدم نحوه مطأطأة الرأس صاغرة، ثم لا تلبث أن تعود أسود كاسرة إلى بلدانها، لتمارس لعبتها المفضلة، "البطش".
ولعل الأذى الذي يتحصل عن إفك ما يسمى بـ"التحليل السياسي" أو "التعليق السياسي" وما يتضمنه من تجميل سوءات الساسة قد يتجاوز أذى القرار السياسي نفسه، إذ إنه يمنح تلك القرارات شرعية ومشروعية الفعل ويسبغ عليه غطاء أخلاقياً، بالتبرير والتماس العذر تارة والتمجيد والقول ببعد النظر الاستراتيجي للقرار وصاحب القرار تارة أخرى، رغم أن تلك القرارات قد يقال بشأنها الكثير، وليس من ضمنه بالتأكيد "العمق الاستراتيجي" ومصلحة الأمة. والعجيب أن هذا النوع يثني على القرار ويعدد محاسنه، ثم لا يلبث السياسي وهو يجرب كعادته أن يتراجع عن قراره نحو آخر فنجد صاحبنا يدافع عن القرار الجديد، دون أدنى خجل من "تحليل مستفيض" لم يجف حبره بعد، عن رجاحة عقل السياسي ووجاهة قراره.
كان لا بد لمنظومة الإفك أن تعاقب الإنسان العربي الذي سعى من خلال ثوراته الشابة إلى كسرها ومغادرتها، وكان ثمن المحاولة دماء تسفك، وسجون تُفتح وأطفال تُقتلع قلوبها وآمالها. |
وقد يكون من يسمى بـ"المثقف العربي" هو أكثر من مارس فعل تبرير "البشاعات السياسية" خلال السنوات القليلة الماضية، لقد أبدى هذا المثقف مهارة وتفانياً في الدفاع عن المجرم والتغطية على جرائمه، ليصنع هو والأنظمة التي يدعمها منظومة من الإفك السياسي، تضع دماء الشعوب العربية وبطش حكامها خارج مجال الرؤية. وفي منظومة الإفك هذه، فإن قتل الناس وتهجيرهم وممارسة التعذيب وفتح السجون بالوكالة عن وكالة الاستخبارات الأميركية، والقصف المستمر الذي لا نتيجة له سوى موت الأطفال.. كل تلك الفظاعات يجري توجيهها بسلاسة ضمن عناوين لا تخلو من "أخلاقية" وعناوين كبيرة.
ورغم عورته المكشوفة، يجهد مثقف الإفك، لتغطية سوءة الأنظمة والحكام موظفا قلمه ومنطقه وقدرته على سوق الحجة واللعب بالبرهان، في حالة تجعلنا نتساءل عن واجب الإعلام في حماية الناس من حماقات المثقفين بدلاً من أن يشرع لها الباب والفضاء، لكن السؤال المحرج فيما إذا كان الإعلام نفسه ليس حلقة من حلقات الإفك!
تكمن المعضلة في الدور المركزي الذي يوديه "الإفك" على كل الصعد، وما يرافق ذلك من تدوير وإعادة إنتاج له ليصبح ملازماً للسياسة والسوق وحتى الدين، في تنافسية مرعبة بين "الإفك" و"الأكثر إفكا"، ولذلك ليس مستغرباً وفق هذه المعطيات أن تتصدر دول إسلامية قائمة المستهلكين للأفلام الإباحية. وفي هذا السوق نجد خبراء تسويق قادرون على جعل الناس تسير ببله وسرعة بعد أن تم إثارة رغبتهم في "إفك جديد" أشد وطأة، وفي هذه السوق أيضاً براعة في إيجاد زبائن جدد، ولم ينجو حتى الأطفال من ذلك.
ولا يعد حال المثقف الذي لا يزين جرائم الحكام لكنه يزين فعل الغرب، ويراهن عليه في المواجهة مع أنظمتنا المستبدة، بأفضل، وكما يتجاهل النوع الأول واقع الظلم والفساد والبطش ينسى النوع الثاني واقع أن الغرب لم يغادر إلى اليوم صفته الاستعمارية.
واقع الأمر أننا مجتمعات يمارس الإفك فيها كنوع من العقاب، لقد جرى إدخالنا في "منظومة الإفك" بصورة مرعبة، لدرجة تجعل من يقاومها غريبا مطارداً، لقد جعلت غير الراضين غرباء داخلها، فلا هم قادرون على الانخراط فيها، ولا تسمح لهم بمغادرتها دون ثمن باهظ، ولذلك كان لا بد لهذه المنظومة أن تعاقب الإنسان العربي الذي سعى من خلال ثوراته الشابة إلى كسرها ومغادرتها، وكان ثمن المحاولة دماء تسفك، وسجون تُفتح وأطفال تُقتلع قلوبها وآمالها، فيما رعى "العالم الحر " دوامة الإفك وهي تبتلع شباباً خرجوا لطلب الكرامة، وقالوا لا لوكلائهم، فرَغِمَ أَنْفُ "مثقف" دخلت عليه الثورات العربية التي حاولت كسر منظومة الإفك والخروج منها، لكنه أدار وجهه وضميره لها، ولسيل الدماء، ولاحقاً حمل الضحايا والقتلى المسؤولية دون أن يرف له جفن، رَغِمَ أَنْفُه!
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.