شعار قسم مدونات

ملابس أبي المهترئة

blogs- الأب
" هذه الملابس لم أجددها منذ خمسة أعوام حتي اهترأت وأنت لا تشعر أو تقدر ما فعلته من أجلك، أنا أرتدي ملابس مهترئة وأنت لا تهتم وتطلب المزيد من أجل تفاهات شباب، أنت حتي لا تكلف نفسك بأن تشعر بامتنان لما حرمت نفسي منه وما ضحيت به كي أجعلك تحيا كما تحيا الآن "


توقفت مع نفسي لبرهة أتساءل ما الذي أرغم أبي علي ارتداء هذه الملابس في حين أني لم أطلب منه قط أن يضحي من أجلي أو يرتدي ملابس مهترئة ويضحي برداء واحد جديد، أنا لم أطلب منه مطلقاً أن يتخلى عن احتياجاته الأساسية كإنسان يحق له أن يحيا حياة كريمة، لم أطلب منه أن يعطيني فوق طاقته المتاحة أو يقتطع من قوته الشخصي كي يعطيني كان من الممكن جداً أن نقتسم القوت فلا يحوذ أحدنا عليه كاملاً والأخر لا يجد شيئاً، لما يحاسبني أبي علي تضحية لم أطلبها منه أو أبتغيها ؟


كان من الممكن أن يخبرني أنه لا يستطيع أو يعطيني بالقدر الذي يستطيع لا بالقدر الذي يجعله يرتدي ملابس مهترئة ومن ثم يحاسبني على شيء لم أطلبه، التضحية التي نعطيها دون أن تُطلب منا إنما نعطيها دون انتظار لمقابل.

كان من الممكن أن يخبرني أنه لا يستطيع أو يعطيني بالقدر الذي يستطيع لا بالقدر الذي يجعله يرتدي ملابس مهترئة ومن ثم يحاسبني على شيء لم أطلبه، التضحية التي نعطيها دون أن تُطلب منا إنما نعطيها دون انتظار لمقابل ولابد أن نعي أن الطرف الآخر في الأغلب لن يعي هذه التضحية لن يعي أن هذه في الأصل تضحية فربما يجدها حق مكتسب أو أمرٌ طبيعي.


أن يحاسبني أبي علي ملابسه المهترئة لأنه قرر أن يجعلني أحيا حياة أكرم من حياته كآدمي لهو فضل منه علي ربما كنت سأعييه إن خيرني بين أن يضحي من أجلي أو يعطيني علي قدر استطاعته فاخترت تضحيته أو علمني مفهوم التضحية فأقدر فعله، كثيرٌ من الآباء والأمهات يحيون علي هذا الأساس وبهذه الصورة يضحون ويضحون من أجل أبنائهم في انتظار تقدير وإذعان بعظيم فضلهم من أبنائهم وحينما لا يحدث ذلك تخير قواهم ويسقطون في بئر لجي ويشعرون أن كل ما فعلوه قد ذهب سدي.


حينما يتم مواجهة الأبناء بما فعله الآباء من تضحية يكون الرد الأول " من طلب منكم ذلك، أنا لم أطلب منكم أن تضحوا بأبسط حقوقكم من أجلي " هنا الأبن معه كل الحق لأنه لم يعي معني التضحية ولأن الأبوان أخطئا في فهم التضحية التي قاموا بها فبدأوا بالمن عليه وإشعاره المستمر أنه المتسبب فيما آلت إليه حالهم مثلما فعل أبي معي، من المساوئ التي يقترفها الآباء في حق أبنائهم أن يلحقوا أفعالهم كلها بالمن وتحميل الطفل أو الأبن ما آل إليه حال الأب من تدهور ويكون التساؤل الملح بداخل الابن " ما دخلي أنا بكل ما حدث له وأنا لم يكن لي التصريف في شيء !! " .


هنا يتضح جهل الأب والأم بأسس التربية السليمة فمن البداية وجب تعليم الطفل ما هي التضحية وكيف يتم تقدريها بأن يعلمها أولا التقدير من خلال تقديرهم لكل فعل يصدر عن الصغير مهما كان بسيطاً لا يذكر فيعلمانه معني التقدير ومن ثم يعلمانه أن التضحية تحتاج لموازنتها بتضحية أخري وهذا لا يثبت أن للأب الحق في المن علي ابنه ولكن كي يعلمه الامتنان من خلال المفهوم العظيم للتضحية وكيف يضحي المرء بما يحب، وإن لم يستطع التضحية لأن الابن لا يكون بيده أن يضحي بشيء إلا بعض الرفاهيات والتي إن علم حال والديه سيتخلى عنها من نفسه تقديراً لهما.


لم يكن ذنبي مطلقاً أن يرتدي أبي ملابس مهترئة وأرتدي أنا البنطالون الجينز باهظ الثمن لم يفهم أبي ذلك وظل يشعر أنني السبب في تردي حالته وكان من المفترض أن أشعر بالذنب وأبكي واطلب غفرانه لكني بدلا من ذلك وفرت من نقودي التي أخذها منه واشتريت له ملابس جديدة وأخبرته أني لن أكون عبئاً عليه إن هو أخبرني ذلك وأنه كان يمكنه أن يخبرني بذلك مسبقاً قبل أن يحملني تردي حالته.


علمت بعدما صارحت أبي بُعد المسافات التي كانت تفصلنا، وكان كل منا مشترك في الخطأ، ولو أنني أري أن أبي مربط الفرس، ولكني أيضاً أخطأت خطأً فادحاً، حينما لم أكلف نفسي الاهتمام ولم يكن لدي قوة ملاحظة أو اهتمام بأبي وأوضاعه.

لم يعلم أبي مطلقاً أي شيء عن حالتي النفسية التي تشوهت خلال فترة طويلة بسبب كلماته المتكررة لي بأنني السبب في كل مآسيه وكأنني الذنب الذي أبتلاه الله به ولا يستطيع الفرار منه، كثيراً ما تمنيت الموت وكثيراً ما كنت أنظر لغيره من الآباء وأتعجب لما يلومني أبي علي شيء لم أفعله دون غيره، لكن في حقيقة الأمر مثل أبي أباء كُثر يضعون أبنائهم بين المطرقة والسندان.


لا فرار من الشعور بأنهم اسوء البشر على وجه الأرض، ولو علم الآباء أن أبنائهم ما هم إلا ورقة بيضاء تفعل ما كتب فيها، لعلموا أن أي تقصير لم يجدوه من أبنائهم تجاههم ما هو إلا أمرٌ لم يعلموه إياهم في أغلب الحالات دون التعميم. فيجب على الأبوين الزرع قبل الحصاد، كي يجنوا ثماراً طيباً لا أرض بور، تأخذ ولا تعطي شيئاً، فيذهب عمرهم ومالهم وتضحيتهم سدي دون طائل.


علمت بعدما صارحت أبي بُعد المسافات التي كانت تفصلنا، وكان كل منا مشترك في الخطأ، ولو أنني أري أن أبي مربط الفرس، ولكني أيضاً أخطأت خطأً فادحاً، حينما لم أكلف نفسي الاهتمام ولم يكن لدي قوة ملاحظة أو اهتمام بأبي وأوضاعه دون طلب منه فلربما حينها كنت خففت وطأة الألم في حنايا قلب أبي تجاهي.


وكم أنني قاسي حين لم أشعر به إلا بعدما صارحني هذه المصارحة، خطأ أنه لم يعلمني له وخطأ أني لم آبه للتعلم أو السؤال المجرد مني بعد نضج ووعي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.