شعار قسم مدونات

لا تقارن فصلك الأول بفصل أحدهم العشرين

blogs - friend
قبل أكثر من سنة، نشر الأخ "سعيد خليفة" صورة أبيه وهو يعمل بكد في الأرض الريفية وقد بلغ الثمانين عاماً، نشرها في صفحته في الفيسبوك وفيها يطلب ممن يتابعه بأن يدعو لأبيه لأنه مريض بعض الشيء، لقد كتب سطوره بمشاعر حزينة وبحسرة كونه يعيشُ بعيداً عنه، فهو في ألمانيا يعمل كطبيب في أحد المستشفيات.


بطريقة أو بأخرى، انتشرت تلك الصورة وذلك المنشور بشكل فيروسي وحصل على أكثر من 50 ألف تفاعل في أيام قليلة، في حين أن الأخ سيد لا يتابعه إلا بعض الأصدقاء والأقرباء، لكن هذا هو شرع الشبكات الاجتماعية التي يصعب التنبؤ بطفراتها العجيبة. انهالت التعليقات على المنشور، أكثر من 6 ألف تعليق، البعض منها كان يهاجم ذلك الشاب الذي -اعتقدوا- أنه ينعم بالحياة الكريمة والراحة المقيمة بينما أبوه يعاني ويشقى ويتعب.


أنت تكتب روايتك الخالدة في هذه الحياة، لن تخلدها الشبكات الاجتماعية أو المقاطع اليوتيوبية، ستخلدها تلك الصحائف التي تنشر يوم الدين، ركز على إنهاء فصولك بالشكل المطلوب، بالطريقة التي ترضي ضميرك وترضي خالقك، صوب نحو القمر كما يفعل البقية، لكن تحرك بعد التصويب.

نشر الأخ سعيد بعدها بأيام منشوراً طويلاً يحكي فيه قصته، حكاية كفاحه، حكاية الألفين رسالة إلكترونية التي أرسلها للمستشفيات الألمانية طالباً للعمل، سافر إلى ألمانيا للبحث عن فرصة جديدة قد تفتح له أبواب الحياة التي أغلقت، وتعيد له الأمل الذي ذبل، كان ينام في القطارات ويسافر المسافات لمقابلة شخص أو زيارة مستشفى، لقد وضح عبر ذلك المنشور بعض المعاناة التي خاضها خلال أشهر سابقة، تلك المعاناة التي لم يرها أحد ممن كتب وعلق.


في عالم الفضاء الرقمي، الجميع يرى النتائج فقط، يرى الوظيفة المرموقة التي حصل عليها فلان، أو البلاد الجديدة التي سافر إليها علان، لن ينشر الشخص قصصه الفاشلة أو إخفاقاته الحياتية التي لا تدعو للفخر، تلك النوعية من الصور لن تجدها ولن تراها، أنت ترى قمم الناجحات فقط، تلك التي يحب الناس مشاركتها وإظارها، ترى الفصول المتقدمة ولا ترى المسارات المتعبة التي خاضوها، والصعاب التي واجهوها.


من أكبر مشاكل الحياة الرقمية التي طغت علينا، أن أصبحنا نقارن كثيراً، حتى وإن لم نشعر بذلك، العقل من داخله يقارن كلما رأى تلك النجاحات والإنجازات، فيتسرب ذلك الشعور الخفي بالإحباط إلى القلب، ونحن ننسى أننا نشاهد الفصل العاشر أو العشرين لشخص آخر، ومن غير العدل أن تقارن فصلك الثاني أو الثالث بفصل أحدهم العشرين.


لا يقتصر الأمر على صورة تُنشَر في الفيسبوك أو الإنستقرام، فالآن عبر سناب شات أنت ترى تفاصيل حياة أشخاص آخرين، بالطبع لن ينشروا لك إلا ما يسر ويبهج، لن ينشطوا في حساباتهم إلا في سفرهم وعند نقاط نجاحهم، دائماً اللقطة الغير مناسبة تحذف من المشهد، اللحظة الصعبة تستعبد من النشر، وأنت ترى الدنيا وردية والحياة سهلة وكل شيء متيسر وسهل، لكنه سهل لهم وصعب عليك -هكذا تظن-، تتحسر في نفسك، وتندب حظك وتعود إلى إيقاع روتينك الممل.


لكلٍ منا روتينه الممل، ساعات العمل الشاقة التي يقضيها حتى يصل إلى نتيجة مرضية، سنين من السهر فوق الكتب والملازم أثناء الدراسة كي نصل إلى لحظة التتويج والتكريم، شهور من العمل الدؤوب وربما سنين كي ينجح مشروعٌ ما ويرى النور، وحينها، سنكون سعداء بهذا الإنجاز، سنخبر به العالم، سننشر عنه الصور والفيديوهات، ولن يرى الآخرون تلك السلسلة الطويلة من الكفاح والعمل، فهي تختفي خلف المشهد، ولا يعرفها من يتابع من بعيد.


أنت تكتب روايتك الخالدة في هذه الحياة، لن تخلدها الشبكات الاجتماعية أو المقاطع اليوتيوبية، ستخلدها تلك الصحائف التي تنشر يوم الدين، ركز على إنهاء فصولك بالشكل المطلوب، بالطريقة التي ترضي ضميرك وترضي خالقك، صوب نحو القمر كما يفعل البقية، لكن تحرك بعد التصويب، من تراه قد وصل هناك كان يوماً هنا حيث تقف، لكنه صعد عبر مركب العمل وفي مسار الزمن، ما عليك إلا أن تبدأ الكتابة، فإن شرعت بكتابة الفصل الأول، فلن يتخلف الفصل العشرين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.