شعار قسم مدونات

"فورتونا" وحلم الشباب العربي بواقع أجمل

blogs- الربيع
عندما ارتفعت أصوات الشباب العربي المطالبة برحيل الأنظمة الدكتاتورية، لم يكن لدى معظم هؤلاء الشباب فكرة عن الثورة المضادة، أو فكرة عن الالتفاف على الثورة.. كان واقع ما بعد الثورة في أذهانهم خاليا من معاني الإجهاض والمعاناة والمخاض العسير، وكان أن توقع الكثيرون أن أياما أو أشهرا قليلة تفصلهم عن الواقع الأجمل، ويتوقف ذلك على عدم قراءة التاريخ السياسي للدول، وطبيعة الصراعات في العالم كله، ومعرفة مخالب السياسة، وما يحدثه تغيير الأنظمة السياسية من اضطرابات سياسية وفكرية كبيرة في الأوطان قد تستمر لعقود.

كم من الشباب العربي الذي كان يهتف في الميادين منذ اليوم الأول لاندلاع الثورات في 2011 على إدراك بصعوبة التغيير السياسي، أو أن الرياح لن تكون مواتية دائما لرغبات ربابين السفن؟


الربيع العربي لم ينتكس، بل يسير التاريخ في دورته الطبيعية، فبعد إنجاز معارك التحرير ضد المستعمر الأجنبي في منتصف القرن الماضي، تتحدد معارك اليوم مع الدكتاتوريات لانتزاع المثل الاجتماعية، كالمواطنة المتساوية، والعدالة، ومبادئ الحكم الرشيد.

لقد تجمعت آنذاك البطالة والفقر والإخفاق السياسي وكان الأمل.. الأمل ذلك الشيء الذي يجعلك توقن أن المستقبل القريب سعيد ومبتسم، لكن الشاب العربي اليوم يشعر بالإحباط، وهو مرض قاتل لا شك، وقادر على كبح مكامن القوة داخل الإنسان، وضرب القدرات الفاعلة روحا وتفكيرا وهمّة.. الآمال الكبيرة لدى الشاب العربي تعرضت جميعها لإهانات "فورتونا" بتعبير الفيلسوف سينيكا.. بعض الأفكار الفلسفية تقدم ملخصا لمنشأ الإحباط.. يكمن ذلك المنشأ من كون الإنسان يؤمن بعالم مثالي، أو غير قابل للانتكاسات


في هذا الشأن تقدم الفلسفة حقيقة ذهبية: سنقلع عن الإحباط، حينما نقلع عن كوننا مفعمين بآمال كبيرة. 
لنقل بشكل أدق، إن الحظ لعب أيضا دورا في صنع هذه الإخفاقات، قصور في العمل السياسي لدى الشباب، وعدم إدراك المخاطر، وأحلام وردية.


الربيع العربي لم ينتكس، بل يسير التاريخ في دورته الطبيعية، فبعد إنجاز معارك التحرير ضد المستعمر الأجنبي في منتصف القرن الماضي، تتحدد معارك اليوم مع الدكتاتوريات لانتزاع المثل الاجتماعية، كالمواطنة المتساوية، والعدالة، ومبادئ الحكم الرشيد، والاستحقاقات الديمقراطية.. من هذا المنطلق ما يحدث اليوم هو صيرورة طبيعية للتاريخ، وحركة منطقية نحو الخط المستقيم.


لعب الحظ أيضا دورا في صنع هذه الإخفاقات فـ "فورتونا" وهي إلهة الحظ في الميثولوجيا الإغريقية، والتي تبدو صورتها على العملات المعدنية، حاملةً في يدها اليمنى قرن ماعز، رمزا لقدرتها على وهب العطايا، وفي يدها اليسرى دفّة سفينة، رمزا لقدرتها التدميرية والشريرة في تغيير المصائر، تعطي نبذة مختصرة عن إمكانية انتهاء الأحلام الوردية إلى واقع صعب، أو لنضع هذه الاحتمالية في الحسبان: 
ما يحدث اليوم هو جزء من صراعات الإنسان العربي مع واقع الأقدار.


يضع الفيلسوف سينيكا صورة لحياة الإنسان والأقدار، لمدى رضوخه أو مقاومته، فقد افترض أن القدر هو العربة التي يتم ربط كلب خلفها.. في أي اتجاه ستسير العربة سيسير الكلب خلفها سواء أراد ذلك أم لا، ومقاومته لاتجاه العربة سوف تزيد من فرص آلامه، ذلك أن الحبل المشدود إلى عنقه سوف يجبره على السير في اتجاه العربة، وتكمن الأهمية في استغلال المساحة الفاصلة بين العربة والكلب لإتاحة فرصة بسيطة للحركة، هذا ما افترضه سينيكا عن الأقدار التي تخضع الإنسان بالقوة.

ولدى فيلسوف آخر وهو شوبنهاور مقولة عظيمة في التأقلم مع الحياة.. يقول شوبنهاور: سيكتسب الشباب الكثير لو تمكنوا عبر النصح والإرشاد الدائمين من تخليص أذهانهم من الفكرة الخاطئة القائلة، إن لدى العالم صفقة عظيمة سيعرضها علينا، وخاصة إن كان هناك شعور أن هذه الصفقة ستكون عما قريب.

هذا المقال ليس وصفة للسعادة والرضى بالحياة كما هي، بل محاولة لفهم ظروف كثيرة، سياسية واجتماعية وتاريخية، تفاعلت لتنتج هذا الواقع المأزوم، ولتقود الشاب العربي الثائر أيضا في النهاية إلى التصالح النسبي مع الواقع، والتحرر من الألم، إن كان هناك شعور بالألم نحو ما يجري اليوم من أحداث في عالم مجنون أو في طريقه إلى الجنون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.