شعار قسم مدونات

أبدية الأنثى الشرقية (2)

ميدان - الأم

"لا تأتي التقاليد من السماء ولا يرسلها الله. نحن من يصنع الثقافات، ولنا الحق في تغيرها، ونحن يجب أن نغيرها" الناشطة الباكستانية ملالا يوسفزي. ما إن تضع الأم الشرقية طفلتها الأولى حتى تشعر بأنها قد فشلت في ثاني اختبار لها في حياتها الزوجية، فرغم الآم المخاض الطويلة التي مازال جسدها يعاني منها في تلك الساعة إلا أنها تنسى كل ذلك -مرغمة لا شعورياً- لتدخل في دوامة الصدمة المفجعة والحزن المرير بسبب هدية الله تلك الغير متوقعة.
 

تهذي وتعاتب نفسها بأن صبر وأثقال الأشهر التسعة وآمالها العظيمة المصحوبة بدعوات الصادقة من أعماق قلبها قد ذهبت وأصبحت هباءً منثوراً في ثانية واحدة! لحظةُ اكتشافها لجنس مولودها. وتعود تلك الأم الشرقية لكي تحمل من جديد داعية وراجية من الله في كل مرة تحمل فيها بأن يكون المولود هذه المرة هو الصبي المنتظر، الصبي الذي سوف يجعلها مميزة في قلب زوجها وفي أعين الناس.

ويزدادُ شعورها سواداً ويأساً كلما أنجبت فتاة تلو الأخرى، إلى أن تصل إلى درجة الشعور بالذنب والخزي، كأنها مجرمة ارتكبت أبشع الجرائم في حق زوجها، وتصبح بلا قيمة مع مرور المحاولات، وتُشٙبهُ فيما بعد بالأرضُ القاحلةُ التي لن تنبت إلا الشوك والعوسج. تتحول إلى امرأة فاقدة لمعنى الأمومة الحقيقية، لا تستطيع الاستمتاع بطفولة فلذات كبدها الصغيرات، وتصبح الحياة في نظرها حياة ظالمة وغير عادلة، لتذرف دموعها أنهاراً صامتة على وجنتيها في جوف الليل الحزين، مناجية الله -الخالق والمعطي- في سرها المكتوم: "وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى" يا رب العالمين.

المرأة حين تكون جاهلة وخاضعة لن تعرف أنها تتعرض للظلم، ولن تسمح لها أعمالها اليومية وركضها خلف أطفالها أو تعصب زوجها، وكثيرا من الأحداث المتتالية التي لا تنتهي لن تجعلها تفكر في نفسها كإنسانة لها قيمة وحقوق كبيرة بقدر الواجبات عليها.

وعلى هذا المنوال المؤلم والعقيم تتوارث الإناث ذلك الشعور بصورة تلقائية بسبب أمهاتهن مجروحات الفؤاد والكرامة، ليصبح ذلك هو واقع حياتهن وخوفهن المستمر. والجانب الآخر لهذه التراجيديا المؤلمة هي أن الأولاد الذكور يكبرون في أحضان جدتهم أو أمهاتهم "مدللين ومنعمين بالحب والعطاء والهيبة" وهي تحذرهم من أخواتهم "الإناث"، وتقلل من قيمتهن بمفهوم أنهن مفعول بهن دائما وأنه يجب مراقبتهن دائماً. وبذلك يعتبر الذكر أختها أو ابنتها بضاعة شرف يجب رمي حملها على عاتق أحدهما في أقرب فرصة ممكنة!
 

والأم بالطبع تحب بناتها ولكن الذكور يأتون في المرتبة الأولى والأهم دائما بغض النظر عن الاستحقاق وصاحب الحاجة الأكثر. وتتعمد النساء المتقدمات في العمر دائما إلى وضع المقارنات السطحية والأفكار العنصرية وزرع بذور الجهل في عقول الصغار، بقصد أو بدون قصد، تخبر "الذكور" على الدوام أنهم هم أساس البيت والعماد الذي تقوم الحياة عليه، وتخبر الفتيات أنهن مجرد ضيفات في منزل أهلهن، وأنهن سيتزوجن غداً. وسيكون ولائهن لهذا الزوج وأهله، أي أنهن خائنات مستقبلا.. لذا فليعشن بأدب وفي خضوع تام. ومن تلك الصورتين نرى الأسباب الأولية والبذرة الحقيقية التي تجعل الذكر يظلم أخته الأنثى ويخلق ويبدع في خلق العادات والتقاليد التي تكبلها ويضعها دوماً في قالب ضيق لا يحق لها الخروج عنه.
 

وليس هُناك أسْوأ عدو للأنثى أكثر من المرأة الجاهلة أو ذليلة النفس، تلك التي لا تريد لبنات جنسها إلا أن يخضعن مثلما هي خضعت، لا تريد أن ترى أنها كانت مخطئة حين خضعت وعاشت حياة من اختيار غيرها. النساء الجاهلات هن الوقود الأول الذي يغذي عنصرية الذكر في المجتمع الشرقي، تجعله في مقام الآلهة الذي يحق له أن يعاقب من يشاء من بنات أسرته دون محاسبة من أحد، يجعلنهُ يخاف من وجود الأنثى التي تفكر والتي تقرأ والتي تبدي الرأي والنصح، فهي أقرب للحية التي تتطاول عن حجرها الذي خُلقت فيه.
 

ودائماً يرفعن من قيمة الذكر الصغير قبل الكبير على حساب الأنثى، وهذا يجعل الذكر يزدري ويمعن الإهانة ويعتبر ذلك واجباً مقدساً عليه تأديته طوال حياته. والمرأة حين تكون جاهلة ومسالمة وخاضعة لن تعرف أنها تتعرض للظلم أصلا، ولن تسمح لها أعمالها اليومية في البيت وركضها خلف أطفالها الأربعة أو السبعة طوال اليوم أو انشغالها مع مضايقات وتفاهات النساء الأخُريات، وتعصب زوجها وازدرائه لها، وتجاهل وجودها من قبل أسرتها بعد زواجها، وخاصة والدها وأخوتها الذكور، كل هذه الأحداث المتتالية التي لا تنتهي لن تجعلها تفكر في نفسها كإنسانة لها قيمة وحقوق كبيرة بقدر الواجبات عليها، وبالإضافة لذلك فهي سوف تحارب الأنثى التي تتكلم عن حقوقها وحريتها بشراسة وضراوة عظيمة كأن المتحدثة أتت بإثم عظيم وبلاءً سقيم من عند الشيطان الرجيم.
 

وهناك من سوف يقول إن كلامي هذا من العصور الوسطى أو القرن الماضي، ولكن مع الأسف الشديد هو موجود وحاضر بقوة في مجتمعات عربية شرقية عنصرية لا تبالي برأي أحد فيها ولا تهتم بطريقة تعاملها مع المرأة على الإطلاق، وأغلب النساء هناك لا يستطعن الكتابة أو الكلام أو التعبير عن ما يحدث لهن وعن قصصهن الشخصية! بعضهن خائف وبعضهن صابر ينتظرن حكم الله وقضائه وبعضهن شجاع ولكن ليس لديهن الأداة والوسيلة لإظهار ذلك.

لذلك وجب عليَ أن أكتب عنهن وأنا أجعل العالم يعلم أن ظلم المرأة موجود بقوة كالعصور الوسطى والجاهلية وأكثر من ذلك. وبعد أن كتبت عن السبب الأول الذي يساهم في استمرارية ظلم الأنثى الشرقية لوقتنا الحاضر، سأكتب في التدوينة التالية عن دور الدين -السبب الثاني- في تعزيز تلك المفاهيم أعلاه في عقول رجال ونساء هذه المجتمعات الشرقية بصورة أقوى وأعظم .

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.