ومن هنا وجب علينا الاهتمام بالحياة الاجتماعية للإنسان لاستشكاف طرق بناء ونظم التفاعل الإنساني داخل مجتمعاتنا. لذلك اهتم الإسلام كثيرا بالحياة الاجتماعية للإنسان حيث يقول تعالى في كتابه العزيز: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا"، ويقول أيضاً في موضع آخر: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ".
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) والآيات والأحاديث الواردة في وجوب الاتحاد والجماعة كثيرة جداً لا يتسع المقام لذكرها كلها. فحسبنا منها ما يعيننا على فهم سر حث ديننا على الاجتماع.
إن الفهم الجيد للإسلام يجب أن ينطلق من فكرة أن الإنسان لا يستطيع العيش بمعزل عن الآخرين، فالإسلام يهتم بالحياة الجماعية للإنسان، والشريعة بتعاليمها ليست مجرّد قيمٍ عُليا تحلق في سماء التنظير المجرّد الحالِم، ولكنها تنبثق من واقع الناس وتُراعي ظروفهم. |
إن الفهم الجيد للإسلام يجب أن ينطلق من فكرة أن الإنسان لا يستطيع العيش بمعزل عن الآخرين، فالإسلام يهتم بالحياة الجماعية للإنسان، والشريعة بتعاليمها ليست مجرّد قيمٍ عُليا تحلق في سماء التنظير المجرّد الحالِم، ولكنها تنبثق من واقع الناس وتُراعي ظروفهم، وتتلاءم مع فِطَرتهم وتكوينهم، وميولهم ورغباتهم، وتبايُنِ قدراتهم ومَلَكاتهم، وكذلك أدوارهم وأعمالهم، وما يلحقهم من نقائص وحالات ضعف، فضلاً عن مراعاتها لظروف الواقع وملابساته. وكذلك فالشريعة تعين الفرد أيضا ليقوم بدوره في مجتمعه على أكمل وجه.
ولذلك فرض الله على المسلمين عبادات وفرائض جعلها أساس كلّ حياة قويمة، ولم تقتصر على أداء العبادات الشعائرية الفردية له سبحانه، بل إنّه جعل من دعائم الإسلام فرض عبادات تقوم على "الجماعة" و "العمل الجماعي"؛ كالزكاة، وصلاة الجماعة، والصيام، والجهاد في سبيل الله. وان تأملنا هذه العبادات التي تقوم على الجماعة نجدها تحتاج "لبيئة مناسبة" و"لعقل جمعي" يعين الأفراد للقيام بها على أكمل وجه ولكي تؤدي دورها الذي شرعت لأجله، والذي يرقى بالإنسان ليجعله يستحق خلافته للأرض.
فالعبادة لا تقتصر على الشعائر من صلاة وصوم وقراءة قرآن وحج وقيام ليل إلى آخر هذه العبادات الشعائرية الفردية، بل يتجاوز مفهوم العبادة الشعائرية التي هي في الغالب علاقة بين العبد وربه جل جلاله، لتدخل في نطاق آخر هو علاقة العبد بالمجتمع.
وفي مقابل ذلك نلحظ وبشكل "مخيف" اهتمام وتركيز رجال الدعوة والدين والشيوخ والعلماء المعاصرين بالجانب الفردي للتدين أو التدين الفردي فقط متجاهلين بذلك التدين الجماعي، غافلين عن كثير من الشرائع التي لا يكون المسلمون جماعة مسلمة إلا بها؛ فتراهم غير مهتمين بمدى إسلامية الحكم الذي تُحكَم بهم بلدانهم، ولا بمـــدى إسلامية المجتمع ومؤسساته المتعددة.
لقد اعتمدوا على هذه النظرة القاصرة للدين فحصروا الدين بعلاقة الفرد بربه؛ لقد جعلوا من أنفسهم على هامش الحياة لا يتحدثون إلا في مواضيع هامشية ومسائل خلافية لا وزن لها وبعيدة كل البعد عن الواقع المعاش للمسلمين.
حتى قال بعضهم بأن "تطور المجتمع رهين بتغيير ذاتي لكل فرد في هذا المجتمع" وهو قول مردود عليه، فتلك حالة مثالية لا يعقل أن يصل إليها أفراد مجتمع مهما بلغ من الرقي والتطور. ولعنا نعذرهم نظرا لأنهم لا يدركون علوم التغيير والفكر والعلوم الإنسانية فلا يعلمون شيئا عن الحراك الاجتماعي والحراك الاقتصادي وأيضا لأنهم يتكلمون في حدود "المسموح لهم".
الدين ليس فقط صلاة وصوم وعبادات، بل هو منهج حياة اختاره الله لنا واختارنا له، فمن الواجب علينا أن نتمثل هذا الدين الحنيف في جميع جوانب حياتنا الاجتماعية، وألا نسمح لمن يريد حصره في نفوسنا أو في مساجد تفتح للصلاة فقط. |
حسبوا بأن الدين عزلة راهب *** واستمرؤوا الأوراد والأذكارا
عجبـــا أراهم يؤمنون ببعضه *** وأرى القلوب ببعضه كفارا
والديـــــن كان ولا يزال فرائضا*** ونوافــلا لله واســـتغفارا
والديــن مصباح حملنا نـوره *** لنبث ما بين الدجى أنوارا
والديـــن ميدان وصمصام وفر ســــان *** تبيد الشر والأشرارا
والديـــــــن حكم باسم ربك قائــم *** بالعدل لا جورا ولا استهتارا
ذاك الهـــــدى يا من يسائل ما الهــدى *** فبأي آلاء الهدى تتمارى؟
فيا من تريدون صنع التغيير وصنع عقول واعية في نفوس أفراد المجتمع؛ عليكم أن تعلموا حقيقة أن التغيير في المجتمع يكون غالبا رأسيا من القيادة وصولا للجماهير -إلا في حالات نادرة كالثورة- حيت تلعب السلطة دور الموجه للمجتمع عبر تحكمها في توجهات المؤسسات الاجتماعية كالأسرة والمسجد والمدرسة والقناة التليفزيونية والجريدة والحزب السياسي، فترسم لهذه المؤسسات خرائط الطريق والخطوط الحمراء التي تناسبها وتناسب بقاءها على رأس السلطة.
مما يحدث نوع من الفرقة بين هذه المؤسسات وبين أفراد هذا المجتمع. فيحس الأفراد بأنهم مغتربون في مجتمعاتهم وبأن مؤسسات المجتمع لا تمثلهم، بل وتعاديهم وتعادي دينهم في كثير من بلداننا المسلمة. وما ندعو إليه من خلال مقالنا هذا؛ هو توعية الفرد المسلم بضرورة أسلمة المؤسسات الاجتماعية وتخليقها لتعبر عن آراء وتطلعات وعقيدة أفراد المجتمع المسلم. ولن يكون ذلك ممكنا دون "مواجهة للسلطة".
وبمواجهة هذه السلطة فقط وبتغييرها أو تغيير رؤيتها للدين ستتغير توجهات كل مؤسسات المجتمع لتخدم بذلك الأفراد المسلمين وتعينهم على دينهم وتشجعهم على الانخراط في الحياة العامة. وتصبح مساجدنا منارات للدعوة والتربية الإسلامية الحسنة، وتصبح مدارسنا شتلات لرجال الغد الواعين المتعلمين. وتصبح قنواتنا التليفزيونية تعبر عنا لتنقل لنا الإسلام في أحسن الصور وأجملها.
الدين ليس فقط صلاة وصوم وعبادات، بل هو منهج حياة اختاره الله لنا واختارنا له، فمن الواجب علينا أن نتمثل هذا الدين الحنيف في جميع جوانب حياتنا الاجتماعية، وألا نسمح لمن يريد حصره في نفوسنا أو في مساجد تفتح للصلاة فقط.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.