الشیخ: وهل هذه الصورة واقعیة؟
الشیخ: إذاً لا تسأل عن مسائل افتراضیة غیر واقعیة، وعلى المسلم أن ینشغل بما یعود بالنفع علیه في دینه ودنیاه ولا یُشغل نفسه بأمور تخیّْلیة!
على الرغم من كون أدبیات التراث الفقهي الإسلامي طافحةٌ بالأمثلة التخیّْلیة غیر الواقعیة، إلا أن هناك جمعٌ غیر یسیر ممن تصدروا للفتوى ما زالوا یصرّون على ضرورة تعاطي الفقه في صوره الواقعیة ممكنة الحدوث فقط! ضاربین عرض الحائط بكل الأمثلة التي تملأ جنبات مكتبات الفقه الإسلامي.
ویا لیت شعري، كیف یُغفل أمثال هؤلاء عدداً من الأمثلة لمسائل فقهیة حینما طرحها أصحابها من أهل الفقه كانت في نظر الكثیرین بمثابة الترف العقلي والسیاحة الذهنیة، ثم أصبحت مما یُقاس علیه لتخریج المسائل المستجدة، ومن أمثلة ذلك قول بعض الأحناف: إذا صلى الرجل وهو یحمل قربة مملوءة بالفساء فهل صلاته صحیحة؟ كانت هذه المسألة من نسج الخیال إذ لم یُتصور لها تمثّل واقعي، ثم ظهر لها عدد من التطبیقات من أشهرها: رجلٌ یعمل في مختبر طبي وهو یحمل عینات لتحلیل البول والبراز فأدركته الصلاة فصلى وهو حامل للنجاسة، فأصبحت المسألة التخیّْلیة هي النموذج الذي لا بد من استدعائه بأقواله المختلفة للجواب عن حالتنا المستجدة هذه.
ومن الأمثلة أیضا، ما نصّ علیه عدد من العلماء على صحة الصلاة في الأرجوحة، قال الرملي في نهایة المحتاج "٤٣٤/١" ولو صلى شخص فرضاً عینیاً أو غیره على دابة واستقبل القبلة وأتم ركوعه وسجوده وبقیة أركانه بأن كان في نحو هودج أو كان على سریر یمشي به رجال أو في زورقٍ أو أرجوحة معلقة بحبال جاز لاستقرار ذلك في نفسه. وقد كانت هذه الأمثلة غیر محتملة الحدوث أو غیر متصورة، ثم أصبحت مستدعاة للحكم على الصلاة في الطائرة.
ولست هنا أدعو لفتح المجال مطلقا أمام الخیالات، فیطلق كل من أراد العنان لعقله وخیاله لیسرح في عالم الخیال لینتج لنا عدداً من المسائل المستحیلة، كما طرح البعض سابقا مسائل یستحیل وقوعها. |
وكذلك مسألة حكم الصلاة لو عُرج بالإمام، فقد نوقشت المسألة ولا تصور واقعي لها آنذاك، وقد ذكر بعض المعاصرین صورة ممكنة لها (1) وهي صلاة الإمام بالمأمومین في صالة مبنى لم یجدوا أنسب منه للصلاة، وفي مكان القبلة مصعد والزحام شدید فجعلوا المحراب هو المصعد والإمام یصلي بداخله ثم طلب أحدهم المصعد من الأدوار العلیا، فما الحكم؟ فهذه المسألة أصبحت متصورة مع ندرتها.
والأمثلة كثیرة في الفقه الإسلامي، وهكذا كان الفقهاء یتوقعون حدوث أمر ما فیناقشونه فقهیا، ویضربون مسائل للتصور حتى إذا وقعت بعد ذلك بعینها أو بما یشبهها، كان لها رصید فقهي سابق یُسهل الوصول لمعرفة حكمها، ولیس ذلك من قبیل الترف العقلي مطلقا كما صوره البعض بل كثیر من المسائل كان لها بالغ الأثر والنفع حینما وقعت صورتها.
هذا ویصر عدد من فقهاء الیوم على الاقتصار على مسائل الفقه متصورة الحدوث فقط، بل إن بعضهم قصر الأمر على المسائل المدونة في بطون الكتب فقط، فحینما سئل عن حكم استعمال جهاز الأوكسجین للصائم أجاب مستغربا: ما هو جهاز الأوكسجین هذا لا أعرفه! وحینما سئل عن حكم أطفال الأنابیب قال أنا أعرف أطفال بني آدم فقط! هذه مسائل واقعیة وتحدث كل یوم وكل ساعة ویجهلها عالمٌ یشار إلیه بالبنان، فكیف لمثله أن یتوقع أو یتخیل مسائل قد تحدث في المستقبل؟!
ولست هنا أدعو لفتح المجال مطلقا أمام الخیالات، فیطلق كل من أراد العنان لعقله وخیاله لیسرح في عالم الخیال لینتج لنا عدداً من المسائل المستحیلة، كما طرح البعض سابقا مسائل یستحیل وقوعها مثل ما ذكره إبراهیم الباجوري في حاشیته قال: "لو شق ذكره نصفین فأدخل أحدهما في زوجة والآخر في أخرى وجب الغسل علیه دونهما. ولو أولج أحدهما في قبلها والآخر في دبرها وجب علیهما الغسل" (على الرغم من كون هذه المسألة ونظائرها تُطرح ویغلب على الظن عدم وقوعها، إلى أن الفقهاء یطرحونها لتعمیق التصور الفقهي وكذلك في حال وقوع ما یشابهها أو یقربها فیكون لدى الفقیه مثال سابق إما أن یقیس علیه أو یهتدي به للفتوى)، فلیس المقصد أن یفتح الباب على مصراعیه لإنتاج أمثال هذه الصور "مع عدم المنع من مناقشة أمثالها في النطاق الضیق لأهل الاختصاص بهدف تعمیق التصورات الفقهیة".
ولكن هناك عدد من الإرهاصات لمسائل على وشك أن تحدث أو باتت هي حدیث الأوساط العلمیة، فهذه لا بد من مناقشتها فقهیا وإعطاء تصورات لعدد من التخیلات، مثال ذلك، یرد في الأوساط العلمیة الآن مشروع إطلاق رحلة فضائیة مأهولة إلى المریخ بغیة استعماره "أي الذهاب دون عودة" وقد بلغ عدد الراغبین في الذهاب قرابة 200 ألف شخص من 140 بلدا في العالم، وقد تعاطى الجانب الفقهي على سبیل المزاح أحد غیر المختصین فلم یقدم ولم یؤخر بل إن تعاطیه فُهم على سبیل السخریة!
یا أهل الفقه، لا أدعوكم بالانصراف عن واقع الأمة لأمور لم تحدث وما زالت في حیز الخیالات، بل أدعو أن ینشغل بعض الفقهاء بمطالعة المسائل التي لها إرهاصات ودلائل على حدوثها. |
فما المانع أن یقدم أحد الفقهاء المعاصرین تصورا یبین بعض الأحكام الفقهیة المتعلقة بالطهارة والصلاة والصیام كحكم الوضوء بماء المریخ وحكم التیمم بتربته وحكم فاقد الطهورین وأحكام استقبال القبلة ودخول وقت الصلاة وقصرها وجمعها ونحو ذلك مما یحتاجه المسلم؟
في نهایة سبتمبر 2016 أعلن عن ولادة طفل لأبوین أردنیین بتقنیة "الإخصاب الصناعي الثلاثي" والتي من خلالها یولد طفل یحتوي على مادة وراثیة من امرأتین ورجل وهي ما یعرف بالطفل ثلاثي الوالدین، وفیها یحمل الطفل نسبةً يسيرة من حمضه النووي من المتبرع أما باقي شفرته وصفاته الوراثیة فیكتسبها من الأم والأب الحقیقیین، هذه التقنیة یؤیدها البعض ویرى أنها الأمل للأمهات اللواتي لا ینجبن أو من لدیهن أمراضا مستعصیة، ویرى آخرون أنها تؤسس لمعضلات أخلاقیة ولا بد من منعها، هذه آراء طبیة فماذا عن الحكم الفقهي؟
لم أجد بعد بحث یسیر سوى فتوى واحدة للدكتور حسام الدین عفانة على موقع شبكة یسألونك الإسلامیة وفتواه بالتحریم، إذ یرى أن هذه التقنیة فیها شبه واضح بالزنا، الآن، وبعد ولادة هذا الولد بهذه التقنیة، ما حكم هذا الولد؟ وماذا لو تم نقاش هذه النازلة قبل وقوعها؟ وعلم الأبوین بالحكم فامتنعا عن المضي في الإنجاب بهذه الطریقة؟ وحتى الساعة فإن المكتبة الفقهیة المعاصرة فقیرة جدا حیال هذه القضیة ونظائرها، والحاجة ملحة لدراسة هذه المسائل من مجمعات الفقه الإسلامي رفعًا للحرج عن أمة الإسلام.
یا أهل الفقه، لا أدعوكم بالانصراف عن واقع الأمة لأمور لم تحدث وما زالت في حیز الخیالات، بل أدعو أن ینشغل بعض الفقهاء بمطالعة المسائل التي لها إرهاصات ودلائل على حدوثها، فصلاة حامل قربة الفساء هي أحد تصورات مسألة الصلاة لحامل النجاسة، ومسألة الصلاة في الأرجوحة وصلاة الإمام لو عرج به هي مسائل طرحت كإحدى التجلیات لحكم الصلاة بین السماء والأرض، فیا حبذا لو انشغلتم بمسائل معاصرة ممكنة الحدوث.
________________________________________________________
هامش:
"١" ذكر المسألة وصورتها الممكنة الشیخ عبدالكریم الخضیر في شرحه لمختصر الخرقي.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.