شعار قسم مدونات

لا صمْتَ بعد الآن

مدونات، الصمت

إلى متى ستظل واقفا على ناصية البوح وتصمت؟ تتكالب عليك هموم الحياة فما تكاد تخرج من مصيبةٍ حتى تُداهمك الأخرى، الأمر ليس مقتصرًا عليك وحدك أو على محيطك ومجتمعك، العالم بأسره يسير نحو الهاوية، وكلما حاولت لملمة شتاتك تسقط من جديد، تباغتك الخطوب دون فسحة تستطيع فيها التقاط أنفاسك حتى، لا تدري هل عليك البوح بما تُعانيه وتحبسه في دواخلك أم سيطول كتمانك أكثر حتى تنفجر دفعةً واحدة.

لماذا تصمُت عندما تواتيك الفُرصة لتخفف أعباء قلبك وتنزع عن كاهلك هذا الحمل الثقيل، همومُ جيلٍ بأكمله واجهته الحياة بكافة أصناف البلايا جُملةً وتفصيلا، الحرب، القتل، الأسر، الغلاء، الإرهاب والتطرف، وعدد ما شئت من عبارات اليأس والإحباط! نولَدُ بهمومنا، لا أقول نولَد لندخل البهجة على أهلنا وأقربائنا، وإنما نولَد لنُضيف إلى همومهم همومًا جديدة، وإلى حملهم الثقيل أحمالًا أثقل، لماذا لم يترك لنا العالم الفرصة كي نأخذ دورتنا الطبيعية في النضج والإدراك، لماذا نصطدم بما نعجز عن استيعابه فنتهاوى! ونسقط ونعاود الوقوف فتتجاذبنا الطرقات المتشعبة!

لماذا علينا أن نبكي في هذه السن وقد ضحكت الأجيال التي سبقتنا؟ لربما ضحكت من فرط البلايا حينها، لكن المهم أنها ضحِكَت!، لماذا نحمل كل هذه الأعباء حتى انحنت ظهورنا ولم يعد بوسعنا تحمُل المزيد؟ تتسارع الأيام مُخلفةً وراءها العديد من المآسي ولا جديد فيها سوى أن عمرنا يتناقص، أي لعنةٍ أصابت منطقتنا العربية حتى صرنا نُصبح على ما أمسينا عليه، وفي كل يومٍ تضاف أزمةٌ جديدة ويزداد جُرحنا اتساعًا، وتتزاحم الكلمات في دواخلنا حتى لكأنها تكاد تخرج مع أول طارقٍ لأبواب قلوبنا.

لن تتوقف عن تلقي الطعنات طالما ألبست نفسك ثوب الضحية المغدورة دائمًا، انفض عنك ركام الذكريات وانزع من جسدك العليل بقايا سهامهم المسمومة

لكننا ومع كل هذا نصمت، ونستمر بالمشاهدة دون أن نحرك ساكنًا، نقول هذا الوقت سوف يمضي، نتشبث بالآمال الخائبة مع إيماننا الكامل بأننا لا نتشبث بشيءٍ سوى الوهم، هل أصبحت أرواحنا جُعبةً لهموم الأيام ونكبات العالم، ألا يكفينا ما فعلته بنا أنفسنا حتى يضيف إلينا العالم أعباءً جديدة، الواقع يقول أنه لا فرار من النهاية المحتومة، أنا لست متشائمًا لكنني لا أرى بقعةً مُضيئةً في هذا السواد القاتم، وإن تفاءلت فكيف!

كيف لهذا الاعوجاج والدمار أن يستقيم! أبكي قهرًا على العمر الضائع دون ثمرةٍ مرجوة، ولا يزيدُني البكاء إلا تشبُثًا باليأس المرابط في كل زاوية، أنا لا أبثُّكم ظلمة روحي ووحشة دواخلي، هناك من يصل رغم العقبات، وهناك من ينجح رغم أمواج الفشل العاتية، لا أعرف لماذا تطرقت إلى هذه النقطة وأنا في البداية أتحدث عن خلجات نفسي وبوحي الدفين وتنهداتي الحبيسة في أعماقي، لكنها الهموم تتجاذبنا فلا نعرف ما الذي نريده حقيقة هل نريد البوح؟، أم أن الاحتفاظ بهذا العبث أفضل من إضافة المزيد من الضحايا إلى سجلات المفقودين روحيًا!

غير أن الحل الوحيد يكمن فيك أنت، في نظرتك لذاتك، في معرفتك بنفسك، أنت ملجأك الوحيد، اجعل دفئك من داخلك، واقتنص سعادتك من أعماق أعماقك، اقتلع جذور الحزن المتشعبة في قلبك، أنت الباقي من أجلك حتى ينقضي أجلك، كلٌ يمرُّ ولا يقيم، لا تتبع أثار العابرين، حسبك من الدنيا محبةٌ هيِّنة وبغضٌ هيِّن، إفراطك هلاكك وتوهمك موتك، وقلبك بيتك فلا تسمح للعابثين أن يشوهوه!

لن تتوقف عن تلقي الطعنات طالما ألبست نفسك ثوب الضحية المغدورة دائمًا، انفض عنك ركام الذكريات وانزع من جسدك العليل بقايا سهامهم المسمومة، ماذا جنيت من ضعفك سوى الهوان والخذلان!، ماذا تنتظر من عالمٍ يمقُت الضعف ويدهس الضعفاء! أدرك أن الله معك، الله مع الجميع، ثق في قدرته على أخذ حقك ولو بعد حين، الله لا ينسى من تسببوا لك بالإيذاء!، وهذا معلومٌ لا شك فيه، ولكن ماذا عن الأخذ بالأسباب؟، كُفَّ نفسك عن الشكوى، كُف عن ترديد نفس الكلمات مع كل طعنة تتلقاها، عمرك يتناقص وما زلت في بُكائياتك وشكواك التي لا تنقطع، إلى متى ستظل واقفًا على أطلالك باكيًا شاكيًا لا تتحرك!

قف على ناصية البوح واصرخ بأعلى صوتك، أسمع العالم أجمع، أسمع نفسك الحبيسة في أوهامك، امض في طريقك، لا تلتفت لما خلفت وراء ظهرك من ركام، اصرخ بأعلى صوتك، خوفك يزول حين تجهر به، لا صمت بعد الآن.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.