تزايد عدد الطلبة الذين يقفزون عن السور في الاستراحة قاصدين المطعم، مما حدا بإدارة المدرسة تشكيل لجان من الطلبة لمراقبة الأسوار ومنع الخروج، تبعها عقوبات وعصي تنهال على أيدي المخالفين. بعد تلك التشديدات بقيتُ وأربعة رفاق لي نتداور القفز من على السور والذهاب خلسة لشراء "السندويش" اللذيذ، وكان سبب عدم امتثالنا لقرار المدرسة أن "السندويشات" التي تباع فيها رديئة، حيث كانت تحوي حبة فلافل واحدة ولعقة حمص تشم ولا ترى "وسَلطة" عبارة عن قطعة بندورة ذابلة دفنت في تلك السندويشة بشكل مؤلم.
اختيارنا للقفز عن السور وشراء "السندويش" من الخارج كان مُجرد تمايز وتفضيل ولم يكن تمرداً ولا خروجاً عن سُلطة المدرسة كما وصفه المدير، فبما أننا نستطيع أن نحصل على سندويش طازج بحجم أكبر ومذاق أفضل بذات السعر، فلما نكون مُرغمين على شراء الطعام الرديء!
كلما مررت من حي الغويرية، أذهب لمطعم اليرموك الذي ما زال كما هو، لشراء "ساندويشة" بمذاق الوطن الجميل، وأعرج على مدرسة حطين أتلمس أسوارها في حالة حنين لا يوصف. |
واصلنا التداور على القفز والشراء حتى تم ضبط "سندويشاتنا" ومصادرتها، وطُلبنا على إثرها لمراجعة الإدارة. في طريقنا عبر الممر بين الصفوف، أوقفنا الأستاذ مسؤول المقصف، وحدثنا بطريقة لا تخلو من إغراء للعمل في مقصف المدرسة مقابل أن نحصل على "السندويشات" مجاناً، ثم قادنا لمكتب المدير، وما إن دخلنا حتى بدأ يصرخ في وجهنا ويتكلم بطريقة عصبية لا تخلو من وعيد وتهديد، تراوح بين الضرب إلى توجيه إنذارات مروراً باستدعاء أولياء الأمور. واصفاً إيانا بقليلي الانتماء، وأننا نعمل لحساب مطعم اليرموك!
بعد أيام وافق ثلاثة من الرفاق على العمل في المقصف متذرعين بحب المدرسة! أما خالد؛ فقد واصل اعتراضه، بقيت شاذاً؛ فلم أستطع مواصلة عنادي خشية أن يُطلب مني إحضار والدي الذي كنت أخشاه، ولم أتقبل فكرة الانصياع للأمر الواقع، فآثرت عدم شراء السندويش نهائياً ووفرت ثمنه.
بعد سنة؛ انتقل أهلي للسكن من منطقة الغويرية إلى حي معصوم في ذات المدينة وانتقلتُ أنا من مدرسة حطين إلى مدرسة حي معصوم القريبة من بيت أهلي الجديد. وبعد أيام من دوامي في المدرسة الجديدة، رأيت أن الحال لا يختلف عن ما هو عليه في مدرسة حطين، حيث كان الطلاب يتململون ويبدون امتعاضهم من سندويشات المقصف الرديئة. إزاء ذلك الوضع خرجت فكرة الإحجام عن شراء "السندويش" في الاستراحة حتى يتم تحسين جودته. لم أكن شريكا في تنظيم المقاطعة كوني طالب جديد ومعرفتي بالطلاب محدودة واكتفيت بمراقبة المشهد، الذي انتهى بتلبية طلب الطلاب بعد أن شعر مسؤول المقصف بأنه سيتكبد خسارة كبيرة جراء المقاطعة، فتم تحسين الجودة بزيادة كمية الحمص وحبة فلافل وإضافة الخيار والبقدونس للبندورة كي تصبح "سَلطة" حقيقية.
حينما يمر علي حدث يعيدني لتلك الذكريات وأراجع ما حصل، تقفز أمامي أسئلة عدة: تُرى هل ما جرى في مدرسة حي معصوم كان بداية تفكير سليم وكسر للطاعة التي جُبلنا عليها منذ صغرنا تحت التهديد والرهبة؟! وهل كان تصرفنا صحيحا بأننا نحن أبناء المدرسة من حقنا الحصول على الأفضل، ولسنا مُرغمين على تقبل الأسوأ والانصياع لمدير يحمل عصا طويلة من أجل تحقيق مصلحة مُدرس هو ذاته المستثمر الذي يوزع "ساندويشاته" على المدير والمدرسين مجاناً؟! كيف قبلنا تهمة قلة الانتماء لمدرسة يسري حبها في أوردتنا؟! يا تُرى أين كان محباً للمدرسة أكثر؟ نحن أم مسؤول المقصف؟!
الآن؛ كلما مررت من حي الغويرية، أذهب لمطعم اليرموك الذي ما زال كما هو، لشراء "ساندويشة" بمذاق الوطن الجميل، وأعرج على مدرسة حطين أتلمس أسوارها في حالة حنين لا يوصف، وعلى ذكر مدرسة حطين، سمعتُ أن رفيقنا خالد الذي واصل عناده، أصبح مسؤولاً كبيراً في الدولة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.