خلال أيامنا هذه لم يعد يخلو أسبوع واحد من وجود تصريح، أو خطاب، أو بيان، أو تعليق للمفكرين الإسلاميين رداً منهم على المثقفين العلمانيين من بني جلدتهم، بدعوى تبنيهم لخطابات معادية للدين الإسلامي نحو: عدم مواكبة الدين لتطورات العصر، وإلحاحهم على ضرورة تجديد الخطاب الديني، وتصحيح المفاهيم الدينية، وضبط صحيح للدين، والقراءة الصحيحة للتاريخ الإسلامي، وتوجيه علماء الدين من أجل التأقلم مع المتغيرات المعاصرة، وبعضهم تجرأ أكثر وطالب بتغيير فرائض الإرث تماشياً مع المساواة بين الرجل والمرأة، …إلخ.
من جهة أخرى ليس منا من لم يتابع على مواقع التواصل الاجتماعي، أن العالم الأميركي الفلاني أو الفرنسي أو الكندي قد توصل إلى نتائج علمية ذكرها القرآن الكريم منذ أكثر من 14 قرناً مضت، وكأن علمائنا الأجلاء هم من توصلوا لهذه النتائج الصعبة وبرهنوا عليها علمياً، متناسين أنهم هم الأولى بإثبات هذه الحقائق العلمية من القرآن الكريم، لأن فيه من الإشارات ما سيغني عن طرح فرضيات قد تتحقق وقد لا تتحقق.
ولكن للأسف عندما لا نستطيع أن ندافع عن الإسلام دفاعاً علمياً، فإننا نميل إلى القراءة الأيديولوجية وهي القراءة التي يسعى صاحبها إلى التصنيف، ويا ليت هذا التصنيف كان مبنياً على حجج ومعرفة، ولكنه مبني على الوهم؛ فالإسلام مشروع شمولي، وهذه الشمولية قد تضعف وقد تقوى وقد تندثر، والسبب ليس هو الدين الإسلامي كما يدعي البعض، وإنما هو المفكر والعالم المسلم، فهو المسؤول الأول عن نتائج تفسيره وأبحاثه. ولكي تتحقق هذه النتائج لا بد من توفر الحرية الإبداعية ولا يمكن للمفكر الإسلامي أن يبدع تحت وصاية جهة معينة توجهه كيفما تشاء ، لأن الحرية الفكرية والإبداعية المضبوطة بضوابط القران هي أساس المفكر ومرجعيته.
على من يدعي أنه مفكر إسلامي يريد أن يدافع عن الدين، فعليه أن يتحلى بهذه الشخصية الشمولية حتى يكون دفاعه عن الإسلام دفاعاً علمياً بالحجة والبرهان. |
رغم أن المفكر الإسلامي له ثوابت ثابتة تتجسد في الكتاب والسنة، فلا بد له أن يكون منفتحاً على جميع العلوم الأخرى حتى ولو كانت مختلفة مع مرجعيته الفكرية، لأن ضبطه وتمكنه من هذه العلوم هو الذي سيجعل فكره يرقى إلى أعلى المستويات. والقرآن الكريم دائماً يدعو إلى التفكر والتدبر وإلى النقد والتجديد والتغيير، لأن الواقع المصلحي هو الذي يفرض علينا التغيير في كل شيء من أجل مواكبة التطور، ومن أجل تجديد الفكر وحل النوازل المعاصرة.
الفقيه لا يمكنه أن يفتي في نازلة معينة دون معرفته المسبقة بفقه الواقع، وفقه الواقع يحتاج إلى إلمام بالعلوم والظروف المحيطة بالإنسان، فكما قال الشافعي -رحمه الله-: "فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليلُ على سبيل الهدى فيها. وقال تعالى: "وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ". فلكل نازلة علمية أو فقهية حل موجود في كتاب الله تعالى، ودور الفقيه والعالم هو التدبر والتفكر وإعمال النظر من أجل استخراج الحلول والحقائق العلمية.
فللأسف هناك بعض العلوم لم تتقدم وبقيت كما هي منذ أن أبدع فيها علماء الأمة السابقين، ومنذ ذلك الحين لم يضف العقل العربي والمسلم لها أي جديد. نعم، تكوين المفكر الإسلامي يحتاج إلى الموسوعية في المعرفة، رغم أن التخصص الأكاديمي قلص من هذه الموسوعية العلمية في عصرنا هذا، ولكن ما الذي جعل علماء الأمة السابقون يبدعون في كافة العلوم والجمع بين العلوم الشرعية والطب وعلم الفلك والرياضيات وغيرها من العلوم التي أبدعوا فيها رحمهم الله؟
على من يدعي أنه مفكر إسلامي يريد أن يدافع عن الدين، فعليه أن يتحلى بهذه الشخصية الشمولية حتى يكون دفاعه عن الإسلام دفاعاً علمياً بالحجة والبرهان، نعم التخصص شيء مطلوب في عصرنا الحالي نظراً لتشعب العلوم والتخصصات ولكن هذا لا يمنع من "معرفة كل شيء عن شيء ومعرفة شيء عن كل شيء" كما قال أحد الفلاسفة.
انطلاقاَ مما سبق إذا لم نستطع أن نصنع عقولاَ مسلمة جديدة قادرة على تبني مفاهيم وآليات ومناهج وتصورات جديدة، فلن نستطيع مواكبة التطور العالمي المعاصر، ولن نستطيع أن نرسم طريقنا ومناهجنا العلمية والتعليمية الخاصة بنا وبهويتنا العربية والمسلمة، وسيبقى العرب والمسلمون دائماً يتساءلون: لماذا تقدم الغرب وتخلف المسلمون؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.