شعار قسم مدونات

فاصل وسنعود

blogs-robot
تخيل أن مخلوقا قدم إلينا من عالم آخر فوجد هذا التقتيل، وهذا التحقير، وهذ التعذيب والتفقير، كيف يمكننا أن نقنعه أن هذا العالم متطور جدا؟ وأننا في عصر ندعي أنه أرقى ما وصلت إليه العصور؟ كيف لنا أن ندعي التحضر وسط كل هذا التوحش الخانق في كل زوايا هذا العالم؟ إذا كنا متحضرين حقا لماذا نتترس في أقبيتنا -المسماة قطرا أو دولة أو شئ من هذا القبيل- وتهلع الأجهزة والإنذار بمجرد أن يمر أحدهم فوق قبو أحد؟ هل بهذا نحن متحضرون أم أن عقولنا قد غشاها دخان المصانع والمنشآت فلم تعد وسط ظلمته تفرق بين الأخضر والأحمر؟ 

في الصين مثلا مليارات من الناس لم يعد قبوهم كافيا لاحتواء تلك الكثافة، ولو استمر التناسل بنفس الوتيرة الأقل من "طبيعية جدا" سينفجر القبو الذي ليس بإمكانه أن يتسع لأنهم يعتبرون جدرانه حدودا لعالمهم الخاص، ومن أجل الاستمرار منغلقين في ظلام القبو لأن فتح نافذته جريمة يعاقب عليها، قرر مالك القبو بقتل حرية الإنسان إذ لا يلد الزوجان إلا طفلا، أو أن لا يلدا أصلا مراعاة لمساحة القبو!

وانطلقت الهتافات في كل الفضاء حتى خارج الصين بالحد من التناسل وأن العلاقة بين الجنسين ما هي إلا متعة حيوانية مجردة من أي وازع أو مقصد إنساني، وكأن النسل هو الصلاح والفساد؛ فما ذنب من يولدون ومن يبحثون عن مكان لهم في الحياة أن يخنق حقهم؟ فهم ليسوا سوى وسيلة إن وجهت للإصلاح أصلحت وإلا أفسدت.

إن حاجة الإنسان للخروج من ذلك المأزق يتطلب تطورا من نوع آخر، إنه تطور في الإنسان الحقيقي؛ الجانب الذي أهمله الإنسان فاستهلك وقود الإنسان الآلي وأهمل الإنسان ذاته.

قد يكون الحد من التناسل معقولا لو أن ثروات الأرض موزعة بشكل عادل، ومن ثم فهي لا تكفي الكثافة السكانية في العالم، ولكن الواقع أن الثروات متمركزة في جهة دون أخرى؛ فائض الرفاهية والعيش الباذخ في جهة، والمجاعة والموت والأوبئة والفوضى المصدرة في جهة أخرى حتى أضحت هذه الجهة بمثابة قمامة للجهة الأخرى تلقي فيها وتصدر لها كل ما تراه غير صالح لها، فما ذنب النسل في هذا إن كان هذا الملأ هم من يفسدون الصالح، وإن كان أيضا ضحية لجشعهم ابتغاء في الاستبداد بالثروات.

فالثروات وضعت لتكفي كل الأجيال وليس جيلا واحدا بشرط أن يتعامل فيها الإنسان على اعتباره إنسانا مستخلفا عليها، وليس مالكا إياها يفسدها بعد أن كانت صالحة ادعاء منه أنه يملكها، فللمالك أن يفعل ما يشاء بملكه، وبهذا اختلطت على الإنسان معايير التطور بعد أن ظن أنه المالك للكون فصار التطور عنده مرتبطا بقدر ما يملك، وللحفاظ على ما يملك لابد له من قوة يحمي بها ملكه وبذلك ارتبطت القوة مع التطور عبر التاريخ فكانت القوة في كل فترة -وكما هو الآن- سببا في اختلال موازين العيش بين الإنسان.

فالإنسان الآن يعيش حالة انتشاء وهو مثمل بالمادة ظنا منه أنه قد أمسك بزمام العالم، غافلا عن كونها لحظة عابرة وسيصدم بهول الحقيقة، إنه فاصل ترفيهي وسنعود إلى صوابنا، حيث تكون النهاية المحتومة فكل حضارة بالضرورة تلد في ثناياها أسباب موتها.. فدورة تطور الحضارات الخلدونية هي حتمية كل حضارة، ومن ثم كان تشبيهه للحضارة بالإنسان في ميلادها وقيامها وشبابها وقوتها إلى اعتلالها وهرمها ثم قضاء نحبها تشبيها دقيقا.. غير أن ما ينضاف إلى هذا التشبيه أن الحضارات كما الإنسان أيضا فعندما يبلغ منها الاعتلال مبلغا تعود إلى صوابها وتبحث عن بارئها.

إن الموقف ليس موقف تشاؤم ولا رجعية وإنما هي الحقيقة الصادعة التي لن يدرأها النكران، إن قوة الإنسان واستبداده وآلته وتكنولوجيته لن تخرجه من هذا المأزق أبدا -إن هو استمر في إنتاج الاختلال، فلابد لاستمرار العيش من تحقيق التوازن في الإنسان أولا ثم في الكون- بقدر ما ستساهم باستفحاله وبذلك لن تكون لا التكنولوجيا ولا هذا التقدم العجيب شيئا مذكورا في أدبييات تطور تلك المرحلة.

فالثروات وضعت لتكفي كل الأجيال وليس جيلا واحدا بشرط أن يتعامل فيها الإنسان على اعتباره إنسانا مستخلفا عليها، وليس مالكا إياها يفسدها بعد أن كانت صالحة.

إن حاجة الإنسان للخروج من ذلك المأزق يتطلب تطورا من نوع آخر، إنه تطور في الإنسان الحقيقي؛ الجانب الذي أهمله الإنسان فاستهلك وقود الإنسان الآلي وأهمل الإنسان الحقيقي، فالعالم لا يمكن أن يستمر بهذا الاختلال في موازين الطبيعة، ولا شك أن أي عاقل يرى أن هذا الاضطراب سيؤدي بالعالم إلى كارثة حقيقية.

وطبيعة الإنسان عندما يحاط به يرجع إلى صوابه وتنشط فيه الدوافع الروحية ويستيقظ داخله الإنسان الحقيقي مستنجدا مما أوقعه فيه طغيانه، وفي القرآن ما يشهد على هذه الكوميديا الكونية ﴿ حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن انجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين ﴾ (الآية 22، يونس).

فاستنزاف الإنسان لثروات العيش، وإنهاك قواه، والانبهار بملاهي الحياة مقابل الإعراض على بناء الإنسان الذي يستطيع بضميره ردع جشعة المادي من أجل النظر بمقاصد المآلات وترقب مصالح الأجيال؛ سيدفعه في الأخير إلى دفع الثمن مضاعفا بحثا على ذلك الإنسان الذي أضاعه في الطريق، لأنه في الأخير سيكون معيار التطور هو مدى ما تحمله داخلك من عناصر الإنسان الحقيقي، الإنسان المستخلف من أجل استثمار الحياة لتستفيد منها الأجيال، الإنسان الذي يدرك أن العالم ليس ملكا له وأنه عندما ولد لم يكن يملك شيئا وأن العالم مشترك للجميع وليس ملكا لأحد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.