شعار قسم مدونات

دبـكـة مخيمجية

Members of a rebel group called the Martyr Al-Abbas perform the Dabke, a traditional dance, in a safe house in Aleppo June 11, 2013. The group, which consists of five brothers and other members, operates under the Free Syrian Army, and was first established in the memory of the brothers' sibling Abbas Sheikh Yasine, who died from fighting in a battle in Sheikh Saeed, against forces of President Bashar al-Assad's regime, according to the brothers. One of the brothers u
أربع خطوات متتابعة كفيلة بكل شيء على المستوى الفلسطيني، وقد تصير الفيصل في حياة كثيرين من أتباع هذا التراث العتيق الموبخ بالمتاعب المستجدة.

الأولى أن الدبكة إحدى أركان الإيمان بفلسطين وعموم الشاميات، وترمز إلى التمسك بالأرض؛ تجيء في أيام عصيبة يصعب فيها الثبات، متتوئمة مع التشرد والحصار، بأن تبدل كل شيء سوادا يضاف إلى دبغ داكن تحت جلود الجياع.

والثانية رواية العهد الجميل خاصتنا، تزعم أن الزائر لمخيم اللجوء الواقع على بوابة دمشق الجنوبية قبيل الكابوس الأخير، كان يشعر بنشوة الوقوف على "سوكة" إحدى الحارات والتفرج على طقوس "الدلعونا" التي يمارسها الصغار والكبار.

وهناك في ذات العهد والمكان، أقيمت الدبكات بلا أعراس على سطوح البيوت العربية وفي الحارات بعد انقضاء ساعات الصيام الرمضاني، أقمت ورفاقي دبكة على سطح معهد الخيّام، أول مكان أحببنا فيه إناث المخيم مع شهادة بكالوريا.

أما الثالثة، فهي أن مع الموت دبكة يقال لها "عرس الشهداء"،  فمن سخرية القدر أن تجبر نساء الفدائيين القدامى على الدبكة كرها، في حارة الفدائيين القدامى، كشرط لإدخال ربطات الخبز اليابس تجنبا للموت جوعا.

وليُـقمن بعدها دبكات الأمل طوعا مع الصبية الصغار قبل أن يفقع أراذل القوم قهرا منهن، الرسالة متطابقة من جهات عدة، إحداها تقشع الغشاوة على أبصار المسؤولين الفلسطينيين، ليثبت عزف المجوز وضرب النعال الصادر عنها عجزهم عن التحلي بالكنعانية.

وإحداها تفاؤل منتهي الصلاحية تبعث به للتخفيف عن المطرودين، يقول لهم "نحب الحياة ما استطعنا إليها سبيلا حتى حين".

وعلى مقربة، ينجح لحن دبكة فلسطينية وحيدة أقامتها "فرقة شباب اليرموك"، بالتخفيف مؤقتا من احتضار نفوس عذبها صفير القذائف وقرقعة البطون الجائعة، وتضحكه الرقصات الشعبية كما لو أنها مفعول الكوكائين أو أشد قليلا.

ومع الخطوة الرابعة، تتدرج الدبكات ويصير التناقض سيد الموقف، فدبكة للفرح وأخرى لتخفيف الألم، تليها دبكة للحرب، ثم دبكة للاشيء وخامسة للتهجير.

وتتعدد الدبكات والدبّيك واحد، فمعذور من يدبك ومعذور من لا يتقن هذا الفلكلور العجيب، ولعل معظم الدبّيكة والعرسان لبسوا ثوب التعاسة الأبدي وأصيبوا بالعيون، فالبعض ماتوا غيلة، والآخرون غيبوا عن الأنظار قسرا.

والألم يحاكي نفسه بين أسرى في سجون الاحتلال وأخوتهم النائمين بأمان في زنازين الأخوة، إلى الحد الذي تتحول معه السجون مخيمات ومدنا على اتساع رقعتها.

"تعليلة اليرموك" إحدى أشكال الدبكة تشتاق هي الأخرى حبيبها "أبو السكن"، ويصير يوم الأرض أشد الذكريات مضاضة عليها بأن قدم المخيم خيرة من كانت تعمر أعراسه بهم.

وتزامنا، تخسر جوقة الفرح أو "فرقة شباب اليرموك" آنفة الذكر، وهجها ويتشتت ركبها بين معتقل ومهجر، لترحل بعدها "عروس اليرموك" سارة، حين سجل القناص اللعين مشاركته في دبكة توزيع المساعدات.

المستشهدون بالشهداء ذاتهم، لم يردوا الجميل فحسب، بل شاركوا في منع الدبكة وسلب العاطفة من هويتها، حيث امتلكوا الوقت الكافي لاستذكار سلة امتيازات تمتع بها الشهداء طيلة ستين عاما..

المعهد أيضا صار أثرا بعد عين، وتلاشت مع سجلاته المحروقة أصداء الدبكات وطبعات أقدام الصاعدين على درجات العلو.

الدبكة ممنوعة بعد اليوم، والمشهد مؤرق بما فيه الكفاية لأنه يشبه غزوة تصيب عاصمة الحياة بمقتل، فتهنئ الضحايا بحفظ ألقابهم.

يعاقب اليرموك منذ ذلك العرس اللعين، فالأطفال يموتون في يومهم، والأرض تتلاشى في يومها والكلمات المخيمجية: "خيا، شلي، زخامة، ميازة، فرتنة، تقسيم، مراجل"، تهوي إلى القاع مع لحوم الغارقين في البحار، والتهمة دائما "دبكة من غير إذن أمني مسبق".

ورغم كل شيء، ظلت جدتي الماكـثة بين جدران الحصار، الأمّ الوحـيدة التي تمارس شتى أنـواع الحيـاة والمـوت، مستخدمة تجـاعيد وجـهها وكفيها المتماهية مع تضـاريس الأرض التي تقام الدبكة والصلاة عليها.

أما أولئك الذين استشهدت أحزابهم وحركاتهم عقودا بمقولة آرييل شارون: "لك يوم يا مخيم اليرموك يا منبع الجرذان"، كان حريّا بهم تطييب خاطر جدتي وجميع من يقيم آباؤهم بالآلاف في أكبر مقبرة شهداء فلسطينيين قضوا حين كان القادة يطالبون بالدفن إلى جوار الفقراء.

المستشهدون بالشهداء ذاتهم، لم يردوا الجميل فحسب، بل شاركوا في منع الدبكة وسلب العاطفة من هويتها، حيث امتلكوا الوقت الكافي لاستذكار سلة امتيازات تمتع بها الشهداء طيلة ستين عاما، في اللحظة التي تغطست ساحة الدبكة بدماء طفل قنصته بنادقهم التي حاربت المحتل ذات صباح.

وبعد المقدمات التافهة تلك، بات الجميع مطالبين بالكشف عن الهوية، فالقصة لم تعد مقتصرة على عاصمة شتات مشتتة تقطنها بعض الجدات بانتظار الخلود.

ففي جميع الأحوال القضية بخير، والدعوة مفتوحة لأبناء الحركات والأحزاب والتنظيمات كافة لإجراء زيارات سياحية إلى المخيمات، للإطلاع عن كثب على امتيازات الأخ الميت وإمكانية إحياء الدبكة على جثمانه.

يصح بعدها معاقبة من أخـروا الأعراس والدبكات، فهي كانت ولا تزال أسمى طموحات لاجئ فلسطيني اضطر لمفارقة عشيق خائن يقال له المخيم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.