شعار قسم مدونات

تونس.. إذ أوى الفتية إلى الربوة.. فقالوا

Law students clash with riot police officers, during a demonstration against the government in Tunis, Tunisia April 14, 2017. REUTERS/Zoubeir Souissi

كنت أقلب أغراضي القديمة.. حين عثرت على مغلف لخرطوشة مفرغة من قذائف الغاز المسيل للدموع، كانت قد سقطت بقربي في أحداث القصبة فاختفظت بها.. نظرت اليها فابتسمت لي وعادت بشريط ذاكرتي سريعا إلى ست سنوات خلت.. أواخر شهر ديسمبر من العام العاشر للألفية الثانية.
 

بعض الملصقات هنا وهناك تذكر بالحدث الجلل "سنة العالمية للشباب والمبادرة التونسية".. بعض الأغاني الروتينية في مذياعات التاكسي، وأخبار عادية عن إنجازات سيادته، وقرارات سيادته.. وزيارة سيادته للشاب الذي أحرق نفسه في إحدى ربوع البلاد.. وعن بعض العصابات الإجرامية التي عاثت في الأرض فسادا.. وكان الوضع في النفوس غير ذلك تماما.. حالة عامة من الحنق على ما آلت إليه الأوضاع.. العديد من البروفيلات الوهمية، وصفحة الحقائق الخفية، وأخبار سيدي بوزيد وغيرها.
 

كنا نسير يومها في محيط كلية الطب نكمل طرفا من حديث بدأناه، قلت لصاحبي: اتسعت رقعة الاحتجاجات.. تالة والقصرين أيضا.. يبدو أن المسألة تتطور بسرعة لم يحسبوا لها حسابا .
قال: وحدات التدخل تواجدت بكثرة في محيط المستشفى الجامعي والمقاهي المحيطة..
قلت: هذه المرة ليست ككل ما سبق.. الرعب في أعينهم..

لئن كانت أحلام الشباب في بلدان الربيع العربي.. تئن تحت دك المدافع في سوريا.. وتستنزف بصمت في زنزانات السيسي، فإن حالها في تونس وإن بدا للعيان أفضل كثيرا من غيره.. فإن المتأمل المتمعن فيه يدرك الخيار الصعب الذي جر إليه الشباب

واصلنا الطريق قبل أن ننتبه إلى وجوده. "جلال" ضابط أمن دولة.. يرجع بالنظر إلى الفرقة العامة لمكافحة الإرهاب على الورق.. حريص على الوشاية بكل نفس معارض ومختص في شؤون الطلبة بالذات على أرض الواقع:
– أهلا وسهلا.. "ما الذي يجمعكم معا في هذا الوقت بالذات؟؟" -كان يعرفنا-.
– عادي.. نفس الدفعة .
– مع بعضكم.. (يبدو عليه الارتباك).. بطاقاتكم!!

كنا قد تأكدنا من لهجته أن الأمور خرجت عن السيطرة، تماما تطورت الأحداث فيما بعد بسرعة بالغة.. حالة طوارئ.. علقت الدروس، عاد كثير من الطلبة لتسيير المسيرات وإشعال بقية الجهات.. استمر الفتيل في الاشتعال.. أكثر فأكثر.. المسيرات.. الشهداء.. القناصة.. سيمفونية رهيبة من الرعب والأمل كانت تعزف على عجل.. و.. بن علي هرب..

بدأت بلورات الرؤى السياسية في تلك الفترة القصيرة تنفض عنها الغبار تدريجيا وتتراءى للعيان جذابة مصقولة.. كل منها يكتل حوله أطيافا من الشباب الذين فجرت الثورة فيهم طاقات من نوع آخر.. شيئا ما لم يكونوا يعرفونه من قبل.. كانت كل بلورة تشكل حولها هالة من شباب الثورة وتنفرهم من باقي البلورات في ذات الوقت.. كان المشهد أشبه بحقول كهرومغناطيسة متداخلة.. تتجاذب فيه تلك البلورات وتتنافر.. في ظل قوانين ظل كثير منها إلى اليوم عصيا عن الإدراك.

كانوا يمرون تباعا من ذات الطريق.. تئط أفئدتهم.. ترزح تحت أحلامهم.. يخبو بريق شموعهم يوما بعد يوم.. وينطفئ بريق الآمال في أعينهم.. كان الطريق مظلما بما فيه الكفاية رغم اللوحات الضوئية الساحرة على مدخله.. وكان محملا بأطنان من خيبات الأمل التي لم تترك أحدا منهم الا وقد حفرت على ملامحه شيئا من حزن قديم..

اليوم مصطلح المراقبة من على الربوة.. مصطلح رائج جدا وشائع الاستعمال بين شباب الثورة التونسية.. ويستخدم كناية عن اعتزال الشأن العام.. والصراعات السياسية الراهنة والاكتفاء بمراقبة الوضع على بعد. هنا لا نتحدث عن مجموعات صغيرة أو بضعة أفراد هنا وهناك ممن لم ينالوا حظا على موائد السياسيين فاعتزلوها.. بل نتحدث عن شرائح حقيقة وقيادات شبابية كان لها الصوت الأعلى في محطة 14 جانفي.. والمحطات التي تلتها.. وساهمت بشكل كبير في تشكيل المشهد السياسي التونسي بعد الثورة.
 

ولئن كانت أحلام الشباب في بلدان الربيع العربي الأخرى تئن تحت دك المدافع في سوريا.. وتستنزف بصمت في زنزانات السيسي.. فإن حالها في تونس وإن بدا للعيان أفضل كثيرا من غيره.. فإن المتأمل المتمعن فيه يدرك تمام الإدراك الخيار الصعب الذي جر إليه شباب الشرارة الأولى.. أولئك الذين كانوا دائما في المقدمة.

الذين ساروا في الظلام حاملين المصابيح.. يعبدون الطريق للحشود من خلفهم.. حتى إذا ما انبلج صبح الحرية.. توالت على ظهورهم الطعنات، فانحنوا إلى الربوة المطلة على جانب الطريق.. يضمدون جراحهم.. يلملمون شتات نفوسهم.. ويعيدون النظر في كل شيء.. في الأمر برمته.. أوله وآخره.. ظاهره وباطنه.

المشهد الأشد إيلاما في الصورة هو أن جمعا من المستبشرين بالثورة والمبشرين بالإصلاح داسوا الثورة، وكبلوا أيديهم بالخيوط طواعية وسلموا الخيوط للكبار.. والتحقوا بالدمى.

هنالك أعادوا حساباتهم القديمة كلها.. وأدركوا يقينا أن العقول الصغيرة.. لن تفهم الرياضيات أبدا ولن تعرف حل المعادلات المركبة يوما وأنها ستبقى وفية لسطحيتها دائما، وستضيع البوصلة حتما، ولن تدرك إلا الجزء الظاهر من جبل الجليد وأنها لن تستطيع التحليل في أكثر من بعد.. فكثرة المتغيرات ترهبها وتقتلها الأبعاد، ستهرع دوما لتسجن في بعدها الواحد من جديد. أيقن الفتية أن.. العقول الصغيرة لن تكبر أبدا.. وأنها كانت هكذا منذ الأزل.

وفصلوا في تؤدة بين أحلامهم والأوهام.. بين المؤول منها جزما والأضغاث، وأدركوا أن كثيرا من الذين بدا عليهم الصلاح. لم تتح لهم في الواقع فرصة حقيقية ليفسدوا، وأن السارقين الصغار ليسوا أفضل حالا.. هم فقط لم يستطيعوا بعد أن يكونوا فاسدين كبارا. وأن أخطاء البلورات قاتلة.. وأن الجرح إن لم يقتل في الحال.. قتل إن تعفن ولم يندمل.. وأن السكوت عن الحق ظلم وأن الصبر على الذل ذل. وأن اللعبة أكبر بكثير مما يظنون.. حتى اللاعبون الأساسيون الممسكون بخيوط اللعبة ظاهرا.. ليسوا سوى دمى في أيدي اللاعبين الكبار.

ولكن المشهد الأشد إيلاما في الصورة هو أن جمعا من المستبشرين بالثورة والمبشرين بالإصلاح داسوا الثورة، وكبلوا أيديهم بالخيوط طواعية وسلموا الخيوط للكبار.. والتحقوا بالدمى. لا أحد يعلم متى ينزل الفتية من على الربوة.. ولكنهم قطعا قد لبثوا سنين عداد، ونشر لهم ربهم من رحمته وهيء لهم من أمرهم رشدا، وأن القادم من الزمان لن يكون أبدا.. كما فات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.