شعار قسم مدونات

الشعبويّة ليست قدرا محتوما في التغيير

blogs الانتخابات الفرنسية

قال الشعب الفرنسي كلمته، وقد جاءت مدويّة في وجه الطبقة السياسية: الشعب يريد التغيير. فنتائج الدورة الأولى من الانتخابات الرئاسية، التي جرت في 23 نيسان، تدلّ على ذلك بوضوح. 

الصدمة الكبرى تمثّلت في فشل الحزبين الرئيسيّين، اللذين تناوبا على الحكم منذ تأسيس الجمهورية الخامسة سنة 1958، في إيصال مرشحيهما، فرانسوا فيون (حزب الجمهوريّين، يمين)، وبونوا هامون (الحزب الاشتراكي الحاكم، يسار)، إلى الدورة الثانية من الانتخابات. وإذا كانت هذه هي المرّة الثانية في تاريخ الجمهورية الخامسة التي لا ينجح فيها مرشّح الحزب الاشتراكي في تخطّي المرحلة الأولى من الانتخابات الرئاسيّة (المرّة الأولى كانت مع ليونال جوسبان سنة 2002)، فإنّ فشل مرشّح اليمين من التأهّل إلى الدورة الثانية شكّل سابقة في التاريخ الفرنسي المعاصر.

من الجلي أنّ أكثرية الشعب الفرنسي قد سئمت من الانقسام التقليدي بين اليمين واليسار، ومن الصراع الذي يبدو في كثير من الأحيان مصطنعا بين الحزبين الرئيسيين، لا سيّما أنّهما يقومان عمليا في أغلب الأحيان، وبالرغم من التباين الإيديولوجي التاريخي بينهما، بتطبيق سياسات اقتصادية (ليبرالية) تتشابه فيما بينها إلى حدّ بعيد. 

أمّا المفاجأة الأخرى، ولو جاءت متطابقة مع استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات، فكانت مزدوجة. من ناحية أولى، تأهّل إلى الدورة الثانية وجه جديد في السياسة الفرنسية. فالمرشّح الوسطي، وزير الاقتصاد السابق إيمانويل ماكرون لم يبلغ الأربعين من العمر، وقد أسّس حركته السياسية منذ سنة واحدة فقط. ومن ناحية ثانية، فقد تأهّلت أيضا مارين لوبان، رئيسة حزب الجبهة الوطنيّة، وهذه هي المرّة الثانية فقط في تاريخ الجمهورية الخامسة التي يصل فيها مرشّح اليمين المتطرّف إلى الدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية، بعد أن كانت المرة الأولى بتأهّل جان ماري لوبان سنة 2002.

أمام الثورة الشعبوية، التي تجتاح العالم، خصوصا إثر نتيجة استفتاء البريكزيت، وفوز دونالد ترمب بالرئاسة الأميركية، كان السؤال الأساسي الذي يقلق الكثير من المراقبين هو معرفة ما إذا كانت إرادة التغيير في فرنسا سوف تتجسّد أيضا بموجة شعبوية

المؤشّر الثالث على إرادة التغيير لدى الناخب الفرنسي كان في حصول مرشّح أقصى اليسار، زعيم حركة "فرنسا التي لا تخضع"، جان لوك ميلانشون، على نسبة مرتفعة من الأصوات، رغم عدم تأهّله. 

أمام الثورة الشعبوية، كما أسماها المفكّر الفرنسي جاك أتالي، التي تجتاح العالم، خصوصا إثر نتيجة استفتاء البريكزيت، وفوز دونالد ترمب بالرئاسة الأميركية، كان السؤال الأساسي الذي يقلق الكثير من المراقبين هو معرفة ما إذا كانت إرادة التغيير في فرنسا سوف تتجسّد أيضا بموجة شعبوية. كان الخوف الأكبر من زلزال انتخابي يتمثّل بمواجهة بين مرشّحة اليمين المتطرّف (لوبان) ومرشّح أقصى اليسار (ميلانشون) في الدورة الثانية، أو حتّى، ولو بدرجة قلق أقلّ، من نهائي بين مرشّحة اليمين المتطرّف (لوبان) ومرشّح اليمين المتشدّد (فيون).

يعتمد الباحث في العلوم السياسية، الألماني يان فيرنير مولر، معيارين لتعريف الخطاب الشعبوي (Jan Werner Müller، Qu est ce que le populisme ? Définir enfin la menace، Premier Parallèle، 2016). المعيار الأوّل هو معاداة النخب، أي توجيه الانتقاد المتواصل إلى الإستبلشمنت السياسي والاقتصادي والثقافي، واعتبار أنّ هذه النخب هي سبب كلّ مشكلة يعاني منها الشعب، لا سيّما بدفاعها عن العولمة والليبرالية. أمّا المعيار الثاني، فهو معاداة التعدّدية السياسية، بمعنى أنّ الحركات والأحزاب الشعبوية تعتبر أنّها هي وحدها التي تمثّل الشعب "الحقيقي" وإرادته الفعلية، وأنّ لا شرعية للمثّلين الآخرين ولو فازوا قانونيا بالانتخابات.

ولمواجهة المشاكل الناتجة عن العولمة، غالبا ما تأتي الحلول المقترحة من قبل الحركات الشعبوية في طروحات تبسيطية تسطيحيّة رجعيّة ماضويّة، تتلخّص بالعودة إلى سياسات الحماية الاقتصادية، والخروج من الاتحادات الاقتصادية والمالية (كالاتحاد الأوروبي، ومن اتّفاق العملة الموحدة اليورو)، والحد من حركة الأشخاص عبر الحدود. وبشكل عام، تقوم مقترحات الحركات الشعبوية على التقوقع، والانغلاق الفكري والثقافي والحضاري، وتأجيج صراع الهويات، والتخويف من الإسلام، والربط بينه وبين الإرهاب، والتنبيه من خطر المهاجرين واللاجئين. 

ولو طبّقنا هذين المعيارين المذكورين آنفا على الأحزاب الفرنسية، لرأينا أنّ حزب الجبهة الوطنيّة، اليميني المتطرّف، يشكّل حزبا شعبويا بامتياز، ولا داعي هنا للتوسّع في الموضوع.

أمّا مرشّح أقصى اليسار، ميلانشون، فصحيح أنّه يعادي الأفكار اليمينية المتطرّفة، ويعمل على مواجهة الكزينوفوبيا والإسلاموفوبيا اللتان يروّج لهما خطاب الجبهة الوطنية، إلّا أنّ خطاب ميلانشون يحتوي على الكثير من عناصر الشعبوية (اليسارية) أيضا. وقد حاول في الأيام الأخيرة أن يعدّل في بعض الجوانب الشعبوية من خطابه، لا سيّما لجهة التخفيف من حدّة انتقاده للعملة الموحّدة اليورو، وللسياسات المشتركة للاتحاد الأوروبي. ومن عناصر شعبويته أيضا إعجابه الكبير بالقادة الشعبويين في أميركا اللاتينية، وبالرئيس الروسي. كما أنّ ميلانشون يبني تحليله لما يجري في سوريا على نظرية المؤامرة، والكثير من اللغة الخشبية المستمدّة من إيديولوجيا ماركسية عالمثالثية رثّة، بعيدا عن واقع معاناة الشعب السوري. ولعلّ تأخّر ميلانشون في الاعتراف بنتائج الدورة الأولى، إلى جانب رفضه حتى الآن دعوة أنصاره لانتخاب ماكرون لقطع الطريق على لوبان، خير دليل على اعتقاده الشعبوي بأنّه الوحيد الذي يمثل الشعب "الحقيقي".

بعد فشل ميلانشون أو فيون بالتأهّل إلى جانب لوبان، يكون الناخب الفرنسي قد تفادى حصر الدورة الثانية بين مرشّحين شعبويين. وبذلك، يكون الناخب قد أوصل رسالة أمل لباقي شعوب وديمقراطيات العالم، مفادها أنّ الشعبوية على أنواعها، والديماغوجية، والانغلاق الهويّاتي، والكراهية ليست الخيار الأوحد لمواجهة مشاكل العولمة

أمّا خطاب فيون، فإنّه ينتمي إلى ذلك الخطاب اليميني الذي بدأ بالتشدد وبالتحرّر التدريجي من التابوهات الأخلاقية في عهد ساركوزي. اعتمد فيون على مهاجمة المسلمين كركن أساسي في حملته الانتخابية، كما تبنّى الخلط المتعمّد بين الإسلام والإرهاب (تخويفه الفرنسيين ممّا يسمّيه "التوتاليتارية الإسلامية"، وليس حتّى "الإسلاموية") لشدّ العصب الإسلاموفوبي. كما جاهر فيون بضرورة التحالف مع بوتين، ومع الأسد – كأخفّ الشرّين – في مواجهة داعش. وقد ارتقى خطابه في سلّم الشعبوية، حتّى وصل إلى أعلى درجاتها عندما بدأ بمهاجمة القضاء والإعلام، وذلك على إثر الاتّهامات بالاختلاسات المالية التي طالته أثناء حملته الانتخابية.

بالمحصّلة، بعد فشل ميلانشون أو فيون بالتأهّل إلى جانب لوبان، يكون الناخب الفرنسي قد تفادى حصر الدورة الثانية من الانتخابات بين مرشّحين شعبويين. وبذلك، يكون هذا الناخب قد أوصل رسالة أمل إلى باقي شعوب وديمقراطيات العالم، مفادها أنّه، على عكس السوابق الأخيرة في بلدان أخرى، الشعبوية على أنواعها، والديماغوجية، والانغلاق الهويّاتي، والكراهية ليست الخيار الأوحد لمواجهة مشاكل العولمة، كما أنّها ليست قدرا محتوما للديمقراطية في القرن الواحد العشرين، إذ أنّ التغيير الديمقراطي المنشود ممكن أن يأتي من براغماتية الوسط المنفتح. تعكس هذه النتيجة تغليب العقل والحكمة والمنطق لدى شرائح واسعة من الفرنسيين، وذلك في خضمّ الغضب الشعبي العارم بعد إخفاقات عهد الرئيس هولاند. 

في7 أيار القادم، سوف يتنافس وجهان متناقضان لفرنسا، وجهان يعدان بالتغيير، ولكن كلّ على طريقته. أمّا أرجحيّة الفوز فهي لصالح التغيير السلس والإيجابي، أي لصالح الخيار الوسطي الذي يبقى، رغم ملاحظات كثيرة حول برنامجه الانتخابي (ومن بينها تردّده بالاعتراف بدولة فلسطينية)، خيار الاعتدال، والبراغماتية، والانفتاح، والتسامح. فماكرون الذي رفع شعار "لا يمين ولا يسار"، يسعى إلى تجميع القوى والكفاءات من الطرفين، وإلى إشراك جميع أطياف المجتمع، بما في ذلك النخب، في النهضة والتغيير، وإلى تحقيق الوحدة الوطنية، بعيدا عن خطاب الكراهية الهستيري الفئوي الذي يميّز المرشّحين الشعبويين. أمّا حظوظه بالفوز، فكبيرة جدا، لا سيما بعد أن دعت أحزاب كثيرة مناصريها لقطع الطريق على مرشحة اليمين المتطرف.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.