"لو لم يتبقى بحوزتي إلا دولارا واحدا؛ فسأنفقه على العلاقات العامة". هكذا وصف بيل جيتس رئيس مؤسسة بيل وميلندا جيتس (مايكروسوفت) أهمية العلاقات العامة بالنسبة له. فقد شهد القرن الماضي بروز وبلورة وتطور مفهوم ومجال عمل العلاقات العامة، والتي أدرك الغرب مدى أهميتها في كافة القطاعات والمجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وعملوا على استثمارها والاستثمار فيها لتحقيق أهدافهم الإنمائية والتجارية والسياسية والاجتماعية وحتى الأيدولوجية.
وإن كان من الصعب اختزال مفهوم العلاقات العامة في كلمات قليلة، إلا أننا إذا ما أردنا أن نتناولها وفقا للمنظور الغربي، فهي عملية اتصالية وإدارية، تسعى إلى خلق وتطوير والحفاظ على العلاقات والاتصالات الفعالة بين المؤسسة -بمختلف مجالات عملها- وبين جماهيرها الداخلية والخارجية، ورسم الصورة الذهنية الإيجابية عن المؤسسة وأهدافها، بالإضافة إلى بناء علاقات الثقة والانتماء مع الجماهير، والعمل على إدارة وتخطيط وتنسيق الأنشطة الترويجية لأعمال ومنتجات وخدمات المؤسسة من خلال أدوات العلاقات العامة المتنوعة التي تشمل جميع أساليب الاتصال الجماهيري والاتصال الشخصي، وإدارة وتنسيق المناسبات وغيرها، والتي توظفها العلاقات العامة في تحقيق أهدافها وما يصب في مصلحة المؤسسة.
دأبت الحكومات الأمريكية والأوروبية المتعاقبة على اللجوء للعلاقات العامة في مراحل صنع واتخاذ وتنفيذ القرارات السياسية والعسكرية، وذلك لتهيئة الأجواء المناسبة لتنفيذ هذه القرارات، وحشد الدعم نحوها |
على مر العقود الماضية واظب الغرب بشكل دؤوب على الاستفادة من العلاقات العامة في مختلف مجالات الحياة، وذلك لما تتمتع به من قوة تأثير فريدة وقدرة على تحقيق أفضل النتائج إذا ما تم استخدامها وتسخير أدواتها بشكل سليم و صحيح، وفقا للحالة والموضوع والبيئة المحيطة والأهداف المرسومة مسبقا. وهنا على سبيل المثال لا الحصر، نرى أن الاقتصاد الأمريكي والغربي اعتمد بشكل كبير على العلاقات العامة في إنعاش الحركة الاقتصادية والوصول للجماهير من خلال تغيير عاداتهم الشرائية وخلق حاجات استهلاكية جديدة، كما بالتلاعب بالعادات والتقاليد بما يتواءم مع المصالح الاقتصادية والربحية. هذا وأصبح تخصيص دور ومكانة مميزة للعلاقات العامة في جسم المؤسسات الغربية من أبجديات النجاح في عالم المال والأعمال.
فالعلاقات العامة وبجانب كل وظائفها التي سبق ذكرها، تعمل على تنسيق الأنشطة والجهود التسويقية والترويجية، وإدارة الأزمات التي قد تواجهها أي مؤسسة، من خلال عملها كجهاز إنذار مبكر للوقاية من أي أزمات مستقبلية محتملة، والخروج من الأزمات الحالية بأقل الخسائر.
أما إذا أردنا أن نلقي الضوء على نماذج تسخير الغرب للعلاقات العامة في الحقل السياسي، فيمكننا أن نرى كيف دأبت الحكومات الأمريكية والأوروبية المتعاقبة على اللجوء للعلاقات العامة في مراحل صنع واتخاذ وتنفيذ القرارات السياسية والعسكرية، وذلك لتهيئة الأجواء المناسبة لتنفيذ هذه القرارات، وحشد الدعم نحوها، وخلق التحالفات الاستراتيجية في أوقات الحرب والسلم، بالإضافة إلى إدارة الأزمات السياسية والاقتصادية، وإدارة صور الحكومات إعلاميا، والترويج لممارساتها واتجاهاتها دوليا. وذلك من خلال التعاقد مع كبرى وكالات ومؤسسات وخبراء العلاقات العامة للعمل كجهة استشارية للقيادات العليا في الحكومات الغربية. وهذا بالضبط ما فعلته الولايات المتحدة الأمريكية إبان حربها على فيتنام وحربي الخليج الأولى والثانية والحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي، وحتى في إدارة مواقفها تجاه القضايا المعاصرة كالأزمة السورية والعراقية واليمنية والقضية الفلسطينية والعلاقات المتوترة مع كوريا الشمالية وغيرها.
وليست حكومة الولايات المتحدة منفردة في توظيف العلاقات العامة في المجال السياسي، فمنذ أن سطرت أساسيات علم العلاقات العامة، لم تنكف الحكومات الغربية على مر التاريخ من الاستفادة من هذه العصاة السحرية وتوظيفها بما يخدم مصالحها ويحقق أهدافها. فقد وجدت كتب "إدوارد بيرنز" منظر العلاقات العامة -والذي يعتبره البعض المؤسس الفعلي للعلاقات العامة من بعد "إيفي لي"- التي تتناول العلاقات العامة والدعاية والهندسة البشرية ضمن ممتلكات "أدولف هتلر"، والذي أوضح لنا التاريخ أن طاغيته النازية اعتمدت بشكل واضح على علوم العلاقات العامة وأدواتها وأساليبها.
قد يطول بنا الحديث كثيرا إذا ما أردنا أن نعدد نماذج تسخير العلاقات العامة في مختلف المجالات، ولكن بيت القصيد هنا هو أن الغرب أدرك واستثمر في مجال العلاقات العامة وعمل على تطويرها وتمكينها، وذلك لاستيعابه مكامن قوتها وقدراتها، وهو ما جعل مهنة العلاقات العامة من المهن الأعلى أجرا في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا.
على النقيض تماما، نجد واقع حال العلاقات العامة في الوطن العربي ودول العالم الثالث. فرغم أن الوضع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي المتردي للدول العربية حاليا يجعلها في أمس الحاجة للعلاقات العامة أكثر من غيرها، إلا أن مفهوم العلاقات العامة فيها لا يزال مغلوطا. فلازلت معظم المؤسسات العربية تختزل عمل العلاقات العامة في الاستقبال والتشريفات وخدمة الزوار فحسب، أو تراها وظيفة كمالية لعمل المؤسسة وغير ذات أهمية. كما نرى العديد من المؤسسات التي تبخل في الإنفاق على العلاقات العامة لجهلها بما تمثله العلاقات العامة من ضرورة للنجاح والديمومة. هذا ونرى الخلط واللبس الفظيع بين أنشطة ومهام العلاقات العامة ومهام التسويق والمبيعات وغيرها من الأنشطة الاتصالية الأخرى.
نجد بعض المؤسسات الكبرى في العالم العربي حاليا والتي بدأت تدرك إلى حد ما أهمية العلاقات العامة تسعى إلى التعاقد مع وكالات وشركات العلاقات العامة الأجنبية والدولية بمبالغ طائلة، وذلك ظنا منها بأنها تحصل على كفاءات مميزة |
فعلى الرغم من ضرورة تنسيق الجهود الاتصالية بين كافة هذه الأنشطة، إلا أن تحديد وظائف ومهام كل منها والإلمام والدراية الكافية بخصائصها ضروري لوضع خطط اتصالية سليمة والخروج بتنبؤات واقعية حول النتائج المتوقعة منها. الأدهى والأمر هنا، أن الاستهتار والتهميش العربي للعلاقات العامة جعل معظم العاملين فيها من غير المتخصصين. فمن النادر جدا أن تجد عاملين في مجال العلاقات العامة من المتخصصين فعلا في هذا المجال، ومن الحاملين للمؤهلات العلمية الضرورية والمطلوبة لهذا العمل. وهذا بحد ذاته مصيبة كبرى، لأن تولية مهام العلاقات العامة لغير المختصين فيها لن يفضي إلى أي نتائج ملموسة على أرض الواقع، وفي أفضل الأحوال سوف يحد من مدى فاعلية أنشطة العلاقات العامة. كما أن هذا الأمر يعمل على ترسيخ الصورة الخاطئة حول فاعلية العلاقات العامة في العالم العربي، وسيقف عائقا في وجه تعديل وتغيير هذه الصورة والنهوض بمجال العلاقات العامة ككل أو الاستفادة الفعلية منها.
من ناحية أخرى، نجد بعض المؤسسات الكبرى في العالم العربي حاليا والتي بدأت تدرك إلى حد ما أهمية العلاقات العامة تسعى إلى التعاقد مع وكالات وشركات العلاقات العامة الأجنبية والدولية بمبالغ طائلة، وذلك ظنا منها بأنها تحصل على كفاءات مميزة وأفضل من الكفاءات العربية أو المحلية؛ وهو اعتقاد خاطئ من الأساس، لأن متخصصي العلاقات العامة المحليين والعرب هم أكثر دراية بطبيعة الأسواق المحلية والمجتمعات المحلية والدوافع والرغبات والحاجات الخاصة بالجمهور المحلي، كما أنهم أكثر قدرة على التخاطب وإيصال الرسائل الاتصالية للجماهير بشكل سليم لإلمامهم بمكنونات المجتمع المحلي والعربي، وهو ما يعد من أبجديات عمل العلاقات العامة.
في الختام، أرى أن مجال العلاقات العامة في الوطن العربي يحتاج إلى أن نوليه اهتماما ودعما أكبر، وأن ندرك أهميته للنهوض بالمجتمع بمختلف مجالاته. فكما قال الكاتب اليوناني نيكوس كازانتزاكيس: "بما أننا لا نستطيع أن نغير الواقع، فلنغير العيون التي نرى بها الواقع". وهنا يكمن فحوى العلاقات العامة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.