شعار قسم مدونات

وأنت بالفعل جُرم صغير

blogs - طفل في حرب
وتحسب أنك جـِرمٌ صغير  *** وفيك انطوى العالم الأكبر
 داؤك منك ومـــــا تبصر  ***  دواؤك فيك ومــــا تشعر
تحسب أنك جـــرم صغير  *** وفيك انطوى العالم الأكبر" الإمام علي بن أبي طالب.

الأبيات المذكورة أعلاه هي الحقيقة المُطلقة والسُنة الكونية التي طبقها الله في خلقه وعلى أرضه، ولكن أبت النفس البشرية إلا أن تُحيل نفسها إلى جُرم صغير يشاهد الجُرم الكبير الذي انطوى فيه الشر الأكبر.

حسب التغييرات التي تحدث على الساحة فنحن مقبلون على نهاية العالم وفي أحسن الظروف سنكتفي بحرب عالمية ثالثة، وقد تُتاح لنا فرصة أن نحكي لأولادنا بعد أعوام مديدة عن الحِقبة التاريخية التي عاصرنا فيها ثورات وحروب ومجاعات.

أطراف الحرب المُقبلة شبه واضحة والتحالفات تبدو جلية للعيان، وفي منتصفها نقف نحن، من ليس له ناقة ولا جمل، تقف بلادنا كطفل مذعور بين جبلين يشاهد وينتظر، يرفع أصبعه كلما سمح له أحد بأن يدلي بما يُمليه عليه، لتعود يداه أدراجها ويستمر في مُشاهدة الجُرم الكبير الذي انطوى فيه الشر الأكبر.

وبين الحين والحين ينظر تحت قدميه، ليطمئن على الأجرام الصغيرة التي تمارس بدورها الشر على أجرام أخرى وهكذا، دوائر داخل دوائر، وأكوان داخل أكوان، وكِبار يمارسون شرورهم على الأصغر، وصغار يمارسون شرورهم على الأصغر، كُلٌ ارتضى دوره كجُرم صغير يشاهد ويتعلم ويمارس ما تعلمه على الأصغر.

لا يمُر يوم دون أن نعرف أن هذا المعتقل الذي كُنا نتلهف لمعرفة أخباره واللسان لا ينطلق سوى بدعاء له وتمنيات بمعجزة إلهيه تشفيه، يصير جُثة هامدة بين ليلة وضُحاها.. فقط تخيل كيف مرت عليه تلك الليلة الأخيرة؟!

بين هذا وذاك تقف مجموعة من البشر، ما يحدث أكبر من أن يجد في أدمغتهم مُتسعًا ليستوعبه، فأنت تعيش مُنفتحًا على عالم مشوش، غاضب، الدماء فيه تسيل كالأنهار، تُطالعك أخبار الموت مع كل صباح، غير عابئة بمحاولاتك الحثيثة للحفاظ على مزاجك الصباحي. تستيقظ من النوم لتمتد يدك إلى تليفونك الذي لا يجد مكانًا غير جوارك، قد تفتحه محاولًا التسرية عن نفسك أو حتى مُطالعة سريعة أخبار الكوكب الحزين، أو حتى بهدف أن تستفيق وتأخذ هدنة قبل الانطلاق إلى العالم الحقيقي لتودع راحتك التي بالكاد تحصل عليها في نهاية اليوم السابق.

ثُم؟ أي من هذا يحدُث؟ بل يحدث ما قد يعكر صفو حياتك كلها ويُحيلها إلى جحيم، جحيم العجز والخُذلان، جحيم الشعور الدائم بالتقصير والخوف مما آت، مما قد يحدث لك ولغيرك. جحيم الضمير الذي لا يهدأ ولا ينام، جحيم اليد القصيرة ولكن العين تُبصر كل شيء، والقلب يشعر بكل ذلٍ يعيشه آخرون والعقل يُدرك كل ظُلم يقع على غيرك.

لا يمُر يوم دون أن نعرف أن هذا المعتقل الذي كُنا نتلهف لمعرفة أخباره واللسان لا ينطلق سوى بدعاء له وتمنيات بمعجزة إلهيه تشفيه، يصير جُثة هامدة بين ليلة وضُحاها، فقط تخيُل كيف مرت عليه تلك الليلة الأخيرة، كيف نازع الموت، ثم تُذكر نفسك بأن الموت كان راحة له من الشر، ولكن ضميرك يقول أنه لا يستحق تلك الميتة، لا أحد يستحق ذلك الظُلم البيّن القابع خلف السجون والمُعتقلات، لا يستحق من تخطفته الأيدي ثم يظهر فجأه مُتهمًا، ولا كثير من أهالي من لا يعرفون مصير ذويهم، ولا من يعرفون ولا يطيقون عذاب الذهاب إليهم. تلك الأيام التي لم تتداول بعد سوى عليهم، ولم تتداول على الظالمين حتى الآن.

ونعيش نحن هكذا بين ذنب التقصير وذنب الحياة، بين رؤية الظلم ولا إنكار سوى بالقلب، بين الخوف مما هو آت وأمنية الهروب التي لا تتحقق، والتي إن قُدِر تحقيقها، لن تجد في أراضي الله الواسعة مكانًا لا يعرف للغدر والظلم عنوانًا، ستستمر بالعيش وأنت فِكرك مشغول بأن هُناك على مرمى البصر يوجد من يقع عليه ظُلم وأنت لا تزال عاجِزًا مُنتظرًا أن يُحدِث الله أمرًا كان مفعولًا، ويتدرج طموحك من أن يُرفع الظُلم إلى أن تمني الحصول على حقوق أساسية يحصل عليها حتى الحيوان المُشرد في الشوارع ولا يجدها إنسانًا.

وهذا كُله بسبب الجُرم الصغير الذي انطوى فيه شر العالم الأكبر، والجُرم الصغير الذي أنكر الخير في قلبه، وبات يعيث في الأرض فسادًا، وهذا كُله بسبب فساد مُتراكم حاولت الأجرام الصغيرة أن توقفه، ولكن لأنها تمارس شرورها هي الأخرى، لم تستطع توقيفه، وتدور الشرور بين الأجرام الصغيرة، ويدورون جميعًا حول الشرور في قلوبهم وهم ليسوا أكثر من كُرة في يد الجُرم الكبير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.