شئنا أم أبينا فإن مواقف الحياة تخبرنا أننا أمام تصنيفٍ للناس إلى مجموعتين: مجموعة (الواحد) التي تنفرد بالكلام والخطاب وتستأثر بالتالي بالسؤال والجواب، ومجموعة (الصفر) التي لو علت الواحد بالحجة لم يكن لها جواب إلا القيد، فيؤثر (الصفر) الفرار من القدح إلى المدح، لائذا في أحسن أحواله بالصمت. من الأهمية بمكان تحطيم هذه الصنمية في النفوس؛ وتحطيمها يكون بالتدافع نحو التكافؤ، وجعل الناس كما الأنفاس تدخل وتخرج، تأخذ وتعطي، تتكلم وتسمع؛ حينها لن تكون منّا أمةٌ كُتب عليها الصمت وأخرى خُلقت للكلام، وللرفاه على حساب أن يقتات البقية الفتات، فالله وهو الله عز في علاه يسمع ويستجيب "قد سمع الله"، و "فاستجبنا له" كما في الآيات المنزلات.
يتخبط (الواحد) في مال الله بحق وبغير حق، فهو يعطي ويمنع ويجود ويبخل، و(الصفر) قد حفيت قدماه من الإبعاد والإجهاد، وأعياه المرض والجهل والتهميش، وتحطيم هذا الاختلال يكون بالإيمان الراسخ بضرورة ألفة السؤال والمساءلة و النقد والمحاسبة بلا سقف، فالبدء بسؤال (من أين لك هذا؟) بصوت يجلجل في الكوامن ثم يفيض على الجهات والمساحات حتى تألفه النفوس، ثم تصرخ به في وجه كل دعيّ مدّعي متشبّع بما لم يُعطَ أو ما ليس له أو فيه .
(الواحد) له وجهان، وجه لقمع الناس بالداخل ومعاقبتهم بالتهميش والتشتيت على أوضح براهين في الوجود وهما الحلم والتاريخ، ووجهه الآخر للخارج وفيه التسامح والعطاء والمساهمة والبناء |
(الواحد) له مؤسسته الدينية الرسمية التي تشرّعه وتشرّع له، فيوجههم ويتوجه إليهم ويحف بهم ويزف موهماً أخذ النصيحة منهم والعبر وهو في الحقيقة يأخذهم ويعبر بهم، وبهم يتم قمع المناوئين في الخطوب وبعد المباركة يتم نحر الشعوب، ثم يحلفون بالله إن أردنا إلا الحسنى وتالله إنهم لكاذبون. و(الصفر) يسّبح بحمدهم ويدين ببراءتهم ويعتقد قداستهم، قد استقر في ذهنه أنهم يحمون حمى الدين ويوقعون عن رب العالمين، تعالى الله عنهم علوا كبيرا. إن تحطيم هذين الصنمين في النفوس يكون بالكفر الأكبر بهم والمخرج من ملة عباءتهم وعبادتهم والتوجه إلى ذوي البصيرة والأمانة والخشية والديانة .
(الواحد) له وجهان، وجه لقمع الناس بالداخل ومعاقبتهم بالتهميش والتشتيت على أوضح براهين في الوجود وهما الحلم والتاريخ، ووجهه الآخر للخارج وفيه التسامح والعطاء والمساهمة والبناء. والصفر قليل الوعي عديم الحيلة لا يعرف للواحد إلا وجه أوحد. وتحطيم هذين الصنمين يكون بتعلم وتعليم علم الوصول إلى الحقيقة بأدواته واستراتيجياته فهو أنفع الأسباب وأقصر طرق العلاج لتعطيل مكنة التزوير الرهيبة. ومن أنجع أدوات هذا العلم أمران هما: إثارة وتحريض الصادقين من النخب والمثقفين في الاضطلاع بدور فاعل في التأثير وإيصال الناس إلى عين الحقيقة والثاني هو التصدي للمطبلين والمباركين للضلال والإضلال أينما كانوا وبانوا.
(الواحد) له مصطلحات ومفاهيم الجلال والجمال وكمال الخصال، فيغشى أحدهم علم المفاهيم فيُلبَس نفسه زوراً أحلاها وأبهاها، فلو سمعت منطوق الجملة الأخير في الثناء عليه تحسب أن الموصوف بأولها هو الله رب العالمين، و(الصفر) عريان السمات مبتور الصفات ليس له منها إلا الهون والدُون، و صفاته من السؤدد أبعد ما يكون؛ وتحطيمهما في النفوس يكون بفهم لغة لعبة المصطلحات والمفاهيم ومنها مقارعة المفهوم بالمفهوم وإبطال المجهول بالمعلوم ومعاملته بنقيض قصده بإغراقه بالمفاهيم المضادة كالطغاة والمستبدون والاقصائيون المستأثرون ، والفاسدون المتآمرون والإقطاعيون والمزوّرون والأفّاكون والسجّانون وغيرها من المفاهيم التي تعكس حقيقتهم، كما ويكون أيضاً بإطلاق العقل عليها بتفكيكها وإبطالها بالتأمل والتفكر والتفكير، وبالقراءة المستفيضة عن المؤسسات التي تقوم بصناعة هذه اللعبة والأدوار المشبوه لها، فلا أب لك إلا الذي ولدك، ولا حامي حمى الديار إلا الله والبشر هم بشر أيّاً كانت مواقعهم ، فيوماً سيموتون والناس لن يضيعون، بل ستستمر عجلة الحياة دون توقف، بهم وبدونهم .
تكسير أصنام المجتمع يكون بإبطال مكر الليل والنهار بالسر والاعلان وذلك بنشر الوعي، ومقاومة الحيل، وفهم الحقوق، والمطالبة بها والتضحية من أجلها ، والإمعان في محاربة الفساد والإفساد ، والتسلح بالقوة الدينية والمالية والعلمية |
(الواحد) يعتقد جازماً ويقترف ذلك عامداً أن السلطة هي القوة وأن ما ليس بيده من القوة فهو بيد غيره ، فيلجأ إلى الإمعان في النفوذ وبلا قيود في جميع جوانب القوة من الحياة، فهو يتنمّر في السياسة و الاقتصاد والمال والأعمال والإعلام والتصنيع وفي جميع مناحي الحياة ، فيبرز قوته بإرهاب الناس وحرمانهم حقوقهم في المشاركة في القرار والإدارة ، كما يتفرد هو وأعوانه بالمال والأعمال والسيطرة على منافذ التأثير والإعلام، وإغراق البلد بالفساد والتخلف ، واللهو والعبث والضرائب والمكوس، وبالمقابل فـ(الصفر) عليه يتم الطحن وبه العجن، وهو اللقمة السائغة لهذه السلطة الزائفة.
وتكسير هذه الأصنام يكون بإبطال مكر الليل والنهار بالسر والاعلان وذلك بنشر الوعي، ومقاومة الحيل، وفهم الحقوق، والمطالبة بها والتضحية من أجلها ، والإمعان في محاربة الفساد والإفساد ، والتسلح بالقوة الدينية والمالية والعلمية، وبناء وتبني مؤسسات التأثير والتغيير بقيادة الأكفاء المخلصين ونشرها بكثافة في المجتمعات كالمدارس والجامعات والمستشفيات والمراكز والجمعيات والمجموعات التثقيفية والأسرية والبرامج والأنشطة والرحلات واللجان و الدراسات المجلات والدوريات، والعمل التطوعي، ومواقع التواصل الاجتماعي والقنوات والمكتبات، والدوايين والمبادرات والمحاضرات والدروس والتدريب، والأندية والإنترنت والمال والأعمال والمهن، وغير ذلك في جميع الميادين ولكل شرائح المجتمع و بلا استثناء.
هذان هما صنمي (الواحد والصفر) وعليك التتمة، فقد تجد ما لا نهاية من أمثلتهما في مجتمعك، وجدير بالعاقل أن يحذر أن يكون صفراً أو سنداً لواحد، بل يكن رقماً صعباً في الحياة ممتطيا صهوة التأثير ورسالة التغيير والتمرد على (الصفر) قبل (الواحد)، بل ليكن أحد معاول هدمها في مجتمعه، حتى يتنفس نسائم إنسانيته ويظفر بحريته ويستمتع بكرامته.. وإلى الأبد.