شعار قسم مدونات

مملكة الوهم.. كلنا دون كيشوت!

blogs - دون كيشوت
تحتفظ ذاكرة أكثر جيل الثمانينيات والتسعينيات بما تمّ بثّه مسلسل كرتون قديم عن دون كيشوت، وكيف كان يحارب طواحين الهواء ظنّاً منه أنها شياطين، وكيف يركب حصانه الهزيل يحمل درعاً متهالكةً يظنّ نفسه عنترة يعتلي صهوة الأبجر، وتتراءى له دولثينيا (عَبْلَتَه) من خلال غبار معركته مع الخِراف، وتلمتع أسنانها مع ضربات سيفه على صفحة الطواحين. ومعه صديقه الدرويش (سانشو بانثا) وقد خُيّل إلى مِن وهمِه أنه وزيره وكبير مستشاريه!

والبعض يعلم أن قصة (دون كيشوت) في أصلها رواية للكاتب الإسباني "ميغيل دي سرفانتس".. ولعلنا ضحكنا حينما نذكرها، ونحن نقرأ هذه الأسطر، فنرجع القهقرى إلى الزمان الجميل، زمان الطفولة التي ذُبحت عند نُصب الحريّة على أعتاب الشام على مشهد من الخليقة كلها في عصر الحضارة المزعومة.
وليست المشكلة فيها ولا في تذكُّرها، لكن! "إنّ الشجا يبعث الشجا".

فلماذا ضحكنا؟ هل لأن الرجل الهزيل ظنّ نفسَه فارسَ عصرِه المخلّص؟ وكم في الأمّة مَن يظنّ نفسَه أنه خيرُها وابنُ بُجدتها! كل ذلك إنما جاءه من (وهمِه) أنه خير الناس، فعلى الناس خدمته والولاء له؛ إن كان في التدريس فيأتيه الشيطان من بابة التعليم أنه بعد النبي صلى الله عليه وسلم خيرُ معلّم، وكم بَنينا من أصنام لأشخاص كذبوا وصدّقوا كذبتهم باسم (المعلم الأول)! وإن كان في الإدارة فالإدارة أصلاً شبّت بين يدَيه، ولولا حسنُ إدارته لما كان لعلم الإدارة وجودٌ، فهو المدير ولا مدير سواه! وإن كان في القيادة والرئاسة فقل ما شئتَ فإنك مقصِّر في ذمّ القادة ممن يتصاغر وهمُ (دون كيشوت) أمام أوهامهم، ويصغر -لطيبته في الأصل- أمام خبثهم الذي أفسد على الناس عقولهم وعقائدهم وترك في ظهورهم وبطونهم وجنوبهم أختام ملكهم المشؤوم؛ وليست هذه اللَّوثة في حكّام الدول فحسب، بل تسري حتى في حكّام الحارات والمناطق والفصائل والأحزاب، وربما بعض هيئات المجتمع المدني! ويمنعني الحياء من الكلام في أهل العلم وأوهامهم وفي متصدّري إمامة الدِّين والمنهج؛ فالمصيبة فيهم أشدّ وأعظم!

كم منا ممن يشاهد مسلسلاً تلفزيونياً فما يلبث أن يشاهد حلقتين أو ثلاثاً حتى يغيّر من قصّة شَعره بما يشبه البطل، أو يحاكيه في لباسه أو سيارته.

أم نضحك لأنه حمل سلاحاً قديماً، ثم خرج يريد فتح الدنيا! فكم ممن يحمل السلاح اليومَ يتطاول به يحسب أنه ملكَ رقاب الناس وأموالهم، بل وأعراضهم!! إن كان في سلاح الحديد أو سلاح المال أو سلاح الإعلام أو سلاح القلم.. يمتطي الباحث اليوم صهوة العلم، وبين هو يكبو ويقع لا يكاد يثبت فوق متنه يسرع القفز فوق هامات ليس أكبرهم مَن كان أستاذ أساتذته يستلّ قلمَه لجزّ رقابهم. ويسرع الخطوَ والقرار في مسائل لو تيسّر أن يجتمع لها الأئمة الأربعة معاً لتوقفوا فيها؛ كلّ ذلك من (وهمه) أنه صار كاتباً، بل عالماً، ما دام تيسّر له بوقٌ إعلامي يصيح فيه، أو دكّانة (دار نشر) تقبل نشر ما يأتيها مما يذكي الشقاق، فتبحث عن المربح ولا تنظر للجناية على عقول الأمة وأبنائها.

وإن اختلفنا في شيء فكم تُهتك من حرمات وتُنشر من خفايا، ونمتطي – إلا مَن رحم الله – صهوة الجهل والسفاهة، ونستلّ سيوف الفيسبوك وتويتر، ونستنفر عشراتٍ من دُمى (سانشو)، وننظر في الأفق فتتراءى لنا كلماتٌ معدوداتٌ في ثنايا كتابٍ يقارب ألف صفحة أو مقال يربو عن ثلاثين صفحة؛ نعم إنها هي، خرافُ (دون كيشوت) التي قاتلَها يحسب غباراً أثارته جيشاً جراراً هبّ ضده يريد إزاحته من عرش ريادة الكتابة والتحقيق والفهم. فمِن الطواحين التي يحاربها (دون كيشوت) اليومَ ما يُثار لكلمةٍ يرميها فلانٌ أو نتسقّطها، ثم نمضي في حربها والرجل لا يشعر بنا، فنتوهّم أنه عاجز عن الردّ، ويفوتنا ما جاء عن بشار بن برد وقد هجا جريراً، فاستصغره جريرٌ ولم يُجبْه، فقال بشار: لو أجابني لكنتُ أشعر العالمين!

كم مِن شيخِ طريقةٍ أكلَ برؤوس تابعيه! وكم من معلّمٍ الناسَ الشرَّ، فجرى في عقولهم جريان الدم في عروقهم فأفسدَ علينا أبناءنا وبناتنا ونحن نحسن الظنّ به.

أم ترانا نضحك لأنه أدمنَ قراءة شيء جميل، فلما دارت في رأسه نشوته سكرَ فخلطَ الواقعَ بالخيالَ، والوهمَ بالحقيقية.. قرأ عن الفروسية حتى صار يعيش في نفسه أنه من أولئك الفرسان الذي داعبوا خياله في الكتب ووجد أُنسَه في واقعه المرير في القرن السادس عشر الميلادي في أوربا! كم منا ممن يشاهد مسلسلاً تلفزيونياً فما يلبث أن يشاهد حلقتين أو ثلاثاً حتى يغيّر من قصّة شَعره بما يشبه البطل، أو يحاكيه في لباسه أو سيارته، أو تحاكيها في تسنيم شعرها وثوبها أو ما بقي منه عليها، ناهيك عمن يسمّون بأسماء الفنانين والفنانات!

ويا لعبلة المسكينة (دولثينيا)!! فكم من أنثى رمتْ بنَظرةٍ، فسقطَ لنَظرتها عشرات الرجال، الكل يتوهم أنها أرادته حبيباً، بل سيداً وزوجاً، ولولا حياؤها الذي يجلببها لأعلنتها مدوية: أحبّك! انتبهْ يا صاحِ؛ إنها متزوجة والذي معها زوجها ومَن يركض بين يدَيها ابنُها، فتدور به الأرضُ ساعةً، ثم يفيق: نعم، قرأتُ في نِظرتها الشكوى والأمل بالخلاص من جحيمه لتنعم في جنّتي! وكم من فتىً لمعَ نجمُه، فلا يكاد يدخل يجلس مجلساً إلا وتبرّعتْ له بضع سيداتٍ بفلانةٍ؛ فإنها تليق بك، أو تهواه قريبةٌ له ساعدَها يوماً في كتابة وظيفة؛ نعم، رأيتُ في عينَيه من يوم ساعدَني وأنا ابنةُ عشرةَ أعوام إعجاباً وحبّاً زادَ مع الأيام، ولا بد أنه صار أضعافاً مضاعفة وهو في الثلاثين وبات موظفاً مرموقاً وقد درجتُ أنا في السابعة عشرة.. وأكبر من ذلك في المدارس والثانويات والجامعات!

مِن أكبر النِّعم على المرء أن يصحو من أوهامه قبل أن يقضي فيها، وألا يستمرئ الوهم وإن وجده سلوى لحينٍ، أو وجدَ أعواناً صدّقوه؛ فكل ذلك فقاعةٌ لا تلبث أن تنقشع وعندها تعرف ما تحتك!

وكم من درويشٍ مثل (سانشو) في الناس اليوم! فقد كان طيباً استطاع (دون كيشوت) أن يقنعَه بسموّ رسالته، ومنّاه بأقلّ مما يمنّي به أدعياء الدِّين مَن يعبثون في رؤوسهم فيرسلونهم رُسلَ دمارٍ وموتٍ! وكم مِن شيخِ طريقةٍ أكلَ برؤوس تابعيه فبلغوا به بعض حقوق رب العالمين! وكم من معلّمٍ الناسَ الشرَّ، فجرى في عقولهم جريان الدم في عروقهم فأفسدَ علينا أبناءنا وبناتنا ونحن نحسن الظنّ به مربّي أجيال!

أوهامٌ فوقها أوهام، وطواحينُ تطحنها طواحين، تزداد علينا الدنيا بكروبها وشدائدها، فنفتح لأذهاننا باباً نحو النجوم، لنطير بأجنحة من وهمٍ في دنيا نرسمها بريشتنا، ليس فيها إلا ما يُسعدنا، ونحذف غيرَ مسترجع منها كل ما يؤلمنا؛ إنها دنيا الأوهام التي رسمها (دون كيشوت) لنفسه، فلما أن زاد من الإبحار فيها غرقَ، لكنْ قيّض الله له قبل أن يهلك مَن أخذ بيده قسراً وطوّقه بالحديد حتى رجع به إلى قريته الصغيرة ليصحو! لكن الحديد الذي طُوّقه وردٌ يُغبط عليه؛ فيكفيه فضلاً ونعمةً ومزيةً أنه أُدرك قبل أن يموت في أوهامه! فلعلها كرامة له أن ينجو بعد أن شطح به الوهم ليفيق من جديد، قبل أن تطحنه حقاً الطواحين التي حاربَها؛ فمِن أكبر النِّعم على المرء أن يصحو من أوهامه قبل أن يقضي فيها، وألا يستمرئ الوهم وإن وجده سلوى لحينٍ، أو وجدَ أعواناً صدّقوه؛ فكل ذلك فقاعةٌ لا تلبث أن تنقشع وعندها تعرف ما تحتك!

قد لا تعجب هذه النَّفثة كثيرين، ولا غرابة! فلعلهم من سكان مملكة الوهم، ولست أشكّ أن نِظرتهم سوف تتغير عند انهيار حصون تلكم المملكة وإطلاق عقولهم من إسار الوهم، وتعليق (دون كيشوت) على أسوارها، ليروا الحقَّ حقّاً حينها.