شعار قسم مدونات

مصرَع الابتسامة في اليمن السعيد

blogs - smile
أنا راقبتُ دفن فرحتنا الكبرى… وشهدتُ مصرَعَ الابتسامة.
هكذا اختصر أبو الأحرار، محمد محمود الزبيري، خيبة الأمل بعد فشل "ثورة ٤٨" في اليمن بالقضاء على حكم الأئمة، وهكذا عنون الكاتب الصحفي الراحل حميد شحرة كتابَه عن تلك الثورة الموؤدة، وهكذا سأستعير هذه العبارة، التي استوقفتني كثيرا، لأكتب عن خيبات الأمل التي تلت انتصار تلك الثورة فيما بعد وانتصار باقي ثورات التحرر العربي من الاستعمار في تلك الحقبة من تاريخ العرب.

فلئن كان مصرع الابتسامة آنئذ ما لبث أن تبعته عودة الآمال مؤقتا بنجاح ثورات التحرير إلا أننا، أبناء هذا الجيل، أحقّ بهذا الوصف منهم وقد شهدنا كل الخيبات ودفنا بأيدينا كل الآمال.

كيف لا، وقد خابت آمالنا لاحقا في ثورات التحرير التي أفرزت أنظمة عقيمة جثمت بفسادها على صدور الشعوب حتى كادت تخنقها، حيث نابت تلك الأنظمة عن الإستعمار في إيقاف عجلة التنمية إلا من فتات تقتضيه دورة الزمن، لتسبقنا شعوب أخرى تحررت بنفس الحقبة، وطرأت عليها كوارث أكبر من تلك التي طرأت علينا لكنها وبسبب المنهج العلمي، والعدالة والنظام، تجاوزت تلك المحن وتقدمت إلى مصافّ الدول الكبرى بينما لا نزال نقبع في سفوح التطور ولم نرتقِ سلالم المجد.

نحن الجيل الذي شهد تشويه القيم الدينية الفاضلة التي تربى عليها بسبب سلوك بعض منتسبيه، وشهد النفور الجماعي من تعاليم الدين بسبب إرتزاق بعض علمائه ضمن جوقة السلاطين تارة، وإستغلال بعضهم للدين لنيل مطامع شخصية أو سياسية أو حزبية، باسمه تارة أخرى

كيف لا نكون أحق بهذا الاسم، وقد شهدنا ضياع قضايانا الكبرى حين فقدنا فلسطين والجولان في لحظات الوهن التاريخية، التي أباحت قصعتنا لكل آكل ولم تكن مقاومتنا، في سياق التاريخ الذي لا يرحم، إلا كرقصة تيس مذبوح يقاوم في لحظاته الأخيرة ليُسلِم الزمام لذابحه في خنوع عجيب.

كيف، وقد شهدنا مقتل آمالنا في وحدة عربية فعالة كنّا نتغنى بها في مناهج المدارس والمجالس والمساجد، لنكتشفَ لاحقاً زيف تلك الأماني ابتداءا، والشعور باستحالتها انتهاء بمثل هذه الظروف التي نعيشها.

بل كيف، وقد شهد جيلنا سطوة الأشقاء على بعضهم وعداونهم على بعضهم أكثر من عدائهم للمستعمر والغازي، وشهدنا إنفاق بعضهم في سبيل إضعاف البعض، مما لو أُنفق على العَدَم المطلَق لتحول إلى دُوَلٍ كاملة الأركان.

كيف، ونحن الجيل الذي أفسد مفهومَي النُصرة والتضامن باستخدامهما في غير موضعهما حين نصرنا المعتدِي منّا على جاره، وحين نصرنا الظالم على المظلوم، وحين خذلنا الملهوف، بمبررات عاطفية ومناطقية أوهن من خيوط العنكبوت، لتضيع هذه الشيم العربية الأصيلة في خضم الضوضاء الجانبية الطارئة، وتضيع بعدها أوطان عربية كاملة، وما ترتب على ذلك من ضياع آثار الحضارات القديمة لتلك البلدان التي كانت قرينة ميلاد البشرية والتي حافظت عليها أجيال عديدة لينتهي بها المطاف إلى الإختفاء والتدمير في عصرنا وربما بأيدينا.

كيف لا، ونحن الجيل الذي شهد تشويه القيم الدينية الفاضلة التي تربى عليها بسبب سلوك بعض منتسبيه، وشهد النفور الجماعي من تعاليم الدين بسبب إرتزاق بعض علمائه ضمن جوقة السلاطين تارة، وإستغلال بعضهم للدين لنيل مطامع شخصية أو سياسية أو حزبية، باسمه تارة أخرى، وكتمان البعض للحق تارة ثالثة وقد أُمروا أن يُبينوا الحق ولا يكتمونه، وإساءة استخدام قيم الدين ومفاهيمه السامية من قبل جماعات التشدد والتطرف التي اختزلت الدين في حدّ السيف وسفك الدماء تارة رابعة.

بل، ونحن الجيل الذي تسرب اليه اليأس، أو كاد، من عدالة السماء – بسبب سوء الفهم – بعد أن يأس من عدالة الأرض التي تنتفض لآلام حيوان جريح أو جائع في عالم الأقوياء، ولا يهتز لها طرف لآلام البشر في بلدان كاملة خارج إطار عالَمِهم، حتى عندما رأينا مساجدنا تهدم وقرآننا يُحرَق، ومقدساتنا وحرماتنا تنتهك لم تسقط السماء كسفا على الفاعل، لأنه ببساطة "ليس بأمانيّكم ولا أماني أهل الكتاب" إنما هي السنن.

كيف لا، ونحن الجيل الذي تخلت النُخَب السياسية والفنية عنه، في اللحظات التاريخية بعد أن كانت تتغنى بحب الوطن والتضحية في سبيله وتحريره من الظلم والفساد ورفع المعاناة عن الفقراء، وتحسين أوضاع المهمشين، فلما دقت ساعة العمل انحازوا للأنظمة التى حاربوا طواحينها وهما، واتخذوا شعوبهم خلفهم ظهريا، واختزلوا الشعوب في دوائرهم الضيقة ومنابع مصالحهم الشخصية.

كيف لا نكون أولى بهذا الاسم، ونحن الجيل الذي عندما أتيحت له فرصة التغيير السلمي، تداعت عليه كل أشباح الماضي لمنعه من التطلع إلى الأفق، فتحولت الانتخابات إلى مواسم لتكريس الواقع أو لتوريث القادم وفي ما عدا ذلك تتحول البلدان لساحات صراع فيما لو أفرزت الانتخابات غير المرغوب أو خرجت عن السياق المرسوم، ثم فشلت كل آليات التغيير السلمي أمام سطوة القوة والمال المدنس ومصالح الدول العميقة، ودُفنت كل الآمال العريضة التي أزهقت في سبيلها الأرواح على الأرصفة وفي الساحات، ليسود الشعور العام بعدم الجدوى، وتنمو في الأعماق جذور الكراهية والرغبة في الانتقام التي ما تلبث أن تتلقفها المنظمات الإجرامية والجماعات المتطرفة كهدية بلا ثمن لتجنيد جنودها وتجديد دمائها التي كادت أن تتجمد في أجواء التسامح والاستقرار النسبي الاعتيادية.

كيف، ونحن الجيل الذي شهد انفتاح السماوات على كل الدنيا فأصبح العالم قرية صغيرة لا يكاد يخفى فيها شئ، مما ضاعف من شعورنا بالضياع في عالم الأقوياء الذي اتّخذ منا مجرد سوق استهلاكية ، كما جعلتنا ثورة الاتصالات على علم كامل بكل مآسي أوطاننا وشعوبنا في أوطاننا أو في المهجَر لحظة بلحظة تزامنا مع عجز كامل عن التصرف أو التعامل مع تلك المآسي والاعتداءات، باستثناء علامات الحزن وكلمات الحوقلة والندب على سوء الحظ كما نعتقد أو جلد الذات في أحسن الأحوال لتتضاعف حسرتنا مئات المرات.

كيف لا، ونحن الجيل الذي يفقد تدريجيا الرغبة في الحياة، ليرمي بنفسه طُعماً لأمواج البحار أو لمعامع الحروب بعد أن ساءت أوضاعه في الأوطان التي مزقتها الحروب والصراعات، مفضلا الموت أو موجات اللجوء على ذلك الحال، منتهيا به الحال إلى فقدان الشعور بالإنتماء الشعوري بالأوطان بعد فقدانها المادي.

حقا، نحن الآن أحق بهذا الوصف من جيل الشاعر قائل هذه الكلمات آنذاك، بل ولعلها قسوة التاريخ حين يقرر تكرار أحداثه الجِسام بصورٍ فجة معتمدا على نسياننا أو على عدم قراءتنا لأحداثه.

باختصار نحن جيل التيه، نتيه في الأرض الواسعة نبحث عن أمل، ونتجرع غصص اليأس وخيبة الأمل، حتى لو كان ظاهر حياتنا أننا نأكل المنّ والسلوى.

وباختصار أيضاً، نحن راقبنا دفن أفراحنا الكبرى … و شهدنا مصرَع الإبتسامة، ولا يسعنا إلا أن ندعوا بدعاء نبي الله موسى ليُخرِج قومَه من المتاه المماثل، (أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين،  واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة).

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان