يتميز شعر عمر بن أبي ربيعة بالحوار الدرامي القريب من لغة النساء والمفصح عن خلجات نفسية "نسوية" دقيقة تعبر فيها المرأة عن حزنها ووجدها ورغبتها وحسدها وكيدها بأسلوبٍ شفيفٍ يبعث في القارئ دهشةً سحقتها مصائبُ هذا الزمن، حواراتٌ وصورٌ تميّز بها عمرُ الذي قال الفرزدق عنه إنه أتى على ما أراده الشعراء فأخطؤه وبكَوا الديار، وعمر هذا كان سببًا في اعترافِ العرب بقريش شِعرًا كما ورد في كتاب الأغاني الذي احتلَّ عمر الجزء الأكبر والأول منه.
في داليَّته الشهيرة يوظّف عمر الحوار النسوي ومستويات اللغة لإخراج المعنى من مكامنه النفسية، فها هي قصة هندٍ وصويحباتها تدور على ألسنة نساء الحي:
زعموها سألت جاراتِها **** وتعرّتْ ذات يومٍ تبتردْ
أكما ينعتُني تُبصرنني؟ **** عمرَكُنّ الله، أم لا يقتصد!
فتضاحكن وقد قُلن لها **** حسَنٌ في كلِّ عينٍ مَن تودّ!
أرادت هندُ بسؤال صويحباتها عن واقعية عمر في وصف جمالها -وهي أدرى بالجواب- أمرين:
– أن تنال منهنَّ اعترافًا بجمالها الذي لا يفتأ عمرُ ينعته في شعره، واعتراف المرأة بجمال امرأة أخرى لعزيز!
– وأن تُثير غيرتهنَّ بوصف عمر لها وحدها دونهنّ.
وقد قارب عمربن أبي ربيعة فهم منظومةِ النساء العقلية التي تخافُ أعينَ النَّاس وألسنتهم التي يحرِّكها عقلٌ جمعيٌّ يتربِّص بتحرُّكات الآخرين لينسُجَ منها ما يملأ به خياله ويشغل به نفسه ويشيعه هنا وهناك |
لكنّهنّ كُنَّ أيقظ منها وأدهى إذ "تضاحكن"؛ أي اصطنعن الضحك، ورددن الصاع الكيدي صاعين بجعل وصف عمر لجمال هند طبيعيًّا لا يدفعه إليه وجود جمال حقيقي بهند إنما لأنه بكل بساطة "حسنٌ في كل عينٍ مَن تود"، لِمَ قلن هذا؟ يجيب عمر:
حسدًا حُمِّلْنَهُ مِن أجلها **** وقديمًا كان فِي النَّاسِ الحَسَد
وعن الحسد المغلَّف كانت قصيدةٌ أخرى لعمر، حيث يضيق صدر المحبوبة بها عن عذابات الحب وتصرّفات المحبوب وتحتاج أختًا تشكو لها لعلّ الشكوى تخفِّف وطأة ما يجري، فيقول:
وهل لي اليوم من أختٍ مواخيةٍ **** منكن أشكو إليها بعض ما فعلا!
فيأتي جواب "الأخت" جافَّا صافعًا، مثقلًا بالبرود مخفيًا حسدًا:
فاقني حياءك في سترٍ وفي كرمٍ **** فلستِ أوَّلَ أُنثى عُلِّقتْ رَجُلا
وفي حوار آخر بين فتياتٍ لمحن عمرَ في الطواف، يبدو الكلام أكثر شفافيةً وصراحةً:
قالت لتربٍ لها تُحدِّثها **** لنُفسِدنَّ الطَّواف في عُمَرِ
قومي تصدّي له ليعرِفنا **** ثمّ اغمزيهِ يا أختُ في خفرِ
قالت لها: لقد غمزتُه فأبى **** ثمَّ اسبطرَّت تجري على أثري.
اقتناصُ عمر لدلالة "تصدّي" على: التعرّض صدفةً بلا مبالاة لا يَقِلُّ دهشةً عن جواب صديقتها الذكية اللَّمَّاحَةِ السَّبّاقة: لقد غمزته فأبى!
ولا يكاد يخلو اجتماعٌ نسويٌّ -لمن يعلم- من فتاة تبدو غريرة غير ذات خبرة بتركيبة المجتمع والمراوغة اللازم اتبعها في التصرفات لتجنب الوقوع بمصائد الألسن، هذه الفتاة لا تقلّ يقظة عن صاحبتنا تلك التي بادرت بغفلة من أتربها بغمز عمر، يقول عمر عن مجلس علا فيه صوت الفتاة الغريرة فجأة:
قالَت ثُرَيّا لَأَترابٍ لَها قُطُفٍ **** قُمنَ نُحَيِّي أَبا الخَطّابِ مِن كَثَبِ
قالَت لَهُنَّ فَتاةٌ كُنتُ أَحسَبُها **** غَريرَةً بِرَجيعِ القَولِ وَاللَعِبِ:
هَذا مَقامُ شُنوعٍ لا خَفاءَ بِهِ **** أَلا تَخَفنَ مِنَ الأَعداءِ وَالرُقُبِ!
وقد قارب عمر فهم منظومةِ النساء العقلية التي تخافُ أعينَ النَّاس وألسنتهم التي يحرِّكها عقلٌ جمعيٌّ يتربِّص بتحرُّكات الآخرين لينسُجَ منها ما يملأ به خياله ويشغل به نفسه ويشيعه هنا وهناك، ولمس عمر شغف المرأة بديمومة بوحِ المحبوب بحُبِّه وجعلِه السببَ لكلِّ حركةٍ وسكون، رائيّتُه تجسيدٌ كاملٌ لهذا المنحى؛ إذ يقول فيها بعد أن جاء المحبوبةَ ليلًا على حين غفلة وتفاجؤ منها -على أساس-:
وقالت وعضّت بالبنان: فضحتني! **** وأنت امرؤ ميسور أمرك أعسر!
فوالله ما أدري أتعجيل حاجةٍ أتت بك **** أم قد نام من كنتَ تحذر؟
فجاوبها وقد استجمعَ كيدَه وحذقه، وكلَّ حيل الرجال في استمالة النساء قائلًا:
فقلتُ لها: بل قادني الشوقُ والهوى **** إليكِ وما عينٌ من الناس تنظُرُ
وأيُّ جاوبٍ يوقد صدر الفتاة أكثر من جعل حبها محورًا لكل حركات المحبوب، وقدّم عمر المحتال هذا السبب وهو يعلم ما يُقدّم ويؤخر، وما يُهدّئ روع الفتاة بأكثر من طمأنتها أن المحب انسلّ إليها بعيدًا عن أعين المجتمع؟
يغدو عبد الله بن مصعب محقًّا إذ قال لإحدى بُنيّاته وقد أرادت أن تدخل على النسوة بشعر لابن أبي ربيعة: ويحك! تدخلين على النساء بشعر عمر بن أبي ربيعة! إن لشعره لموقعاً من القلوب ومدخلاً لطيفاً، لو كان شعرٌ يسحر لكان هو، فارجعي به. |
لكن هذا المجتمع الذي تتكاثر فيه القالة وتنتشر، لا تعدم المحبوبة أخواتٍ وصديقاتٍ يساعدنها على لقاء المحبوب وينقلن له رسائلها المثقلة بالبوح والشوق:
وقولا لهُ واللهِ ما الماءُ للصدى **** بأشهى إلينا من لقائكَ فاعلما
ويؤدّين أمنتهُ لها كما حملنها: **** فقلتُ: ٱذهبا قولا لها أنتِ همُّه
وكِبرُ مناهُ من فصيحٍ وأعجمَ **** إذا بنتِ بانتْ نعمةُ العيشِ والهوى
وإن قرُبتْ دارٌ بكم فكأنما **** يرى نعمة الدنيا احتواها لنفسِهِ
يرى اليأس غُبنًا وٱقترابكِ مغنما
كان عمر "فاضحًا للحرائر" كما تقول فاطمة بنت عبد الملك؛ وأردت بذلك قوله:
قالَت وَعَيشِ أَبي وَحُرمَةِ إِخوَتي **** لَأُنَبِّهَنَّ الحَيَّ إِن لَم تَخرُجِ
فَخَرَجتُ خَوفَ يَمينِها فَتَبَسَّمَت **** فَعَلِمتُ أَنَّ يَمينِها لَم تَحرَجِ
والفضح يكمن في أنّ عمر يكشف أساليب النساء؛ فهنَّ يحلفن على ما لا يردن، ويطلبن خلاف ما في نفوسهنَّ، فهي لمّا حلفت عليه وهددته بأن يخرج، خرج خوفًا فابتسمت وأدرك حينها أنها قالت ما لم تُرِد!
وفضح الحرائر إذ أجرى على ألسنتهن رغباتٍ يخجلن من إظهارها، ومكنونات هوًى مدفونةٍ خوفًا وتهيُّبًا، فالمحبوبة ترسل له أنه شغلها أحبّها أم لم يحبها:
..قولي لَهُ: أَنتَ هَمّي **** وَمُنى النَفسِ خالِياً وَخَليلي
والمحبوبة في هذا "المجتمع الانفصالي" المتدين لا ترى حرجًا من أن تحدث وليّ أمرها عن عمر الذي غواها بحباله ثم تركها قبل أن تروي غليلها منه:
قالتْ لقيِّمَهَا وَأَذرَتْ دَمعَةً: **** مَا لي وَما لَكَ يَا أَبَا الْخَطَّابِ؟
أَطْمَعْتَنِي حَتَّى إِذَا أَوْرَدْتَنِي **** حَلَأْتَنِي لَمْ أَسْتَتِمَّ شَرَابِي
فعلًا يغدو عبد الله بن مصعب محقًّا إذ قال لإحدى بُنيّاته وقد أرادت أن تدخل على النسوة بشعر لابن أبي ربيعة: ويحك! تدخلين على النساء بشعر عمر بن أبي ربيعة! إن لشعره لموقعاً من القلوب ومدخلاً لطيفاً، لو كان شعرٌ يسحر لكان هو، فارجعي به.