مع إطلالة هذا الصباح يعلن القطار بلوغه المحطة الأولى بعد رحلة طويلة أضنته، رحلة لم نكن نظن أنها ستدوم كل هذا لتبلغ أولى محطاتها ليطوف كلانا بعد ذلك العالم في أكثر بكثير من ثمانين يومًا نظل ضالين فيها الطريق ولنرتحل كابن بطوطة لا نجد لنا مرسا. أتذكر أنِّي في أكثر من مرة وقفت في منتصف الطريق أو ربما قبل أن ينتصف وقلت للقطار: "توقف أتعبني السفر" لكن أنصاف الأشياء دوما تلاحقني وتقول: "نريد أن نكتمل فتجلدي بالصبر. "
كما يبحث الظمآن عما يرويه والمريض عما يشفيه قررت البحث عنكِ فأتعبني السفر إليكِ، سفر تشابه عليه الليل والنهار ورافقته الشمس والنجوم والقمر. فإذا ما أرسلت الشمس شعاعها الأول ونادت للعابرين هلموا فاستجابوا، نظرت في الوجوه من نافذة القطار علّي أجدك في تقاسيمهم وأنصتُ لما يقولونه علهم يخبّروني عنك. تمعنت في هؤلاء العابرين، رأيتُ بينهم الحالمين الطامحين فقلت في نفسي "ربما أنتِ هكذا" ثم مرّ عجوز مهزوم، مكسور، فتداركت وقلت "لا بل هكذا أعتقدكِ".
وتمازجت إثر ذلك تعابير الوجوه وصار صعبا أن أظفر بكِ. أظل كذلك حتّى ترسل الشمس شعاعًا أخيرًا يشبه الأول ويبزغ القمر يداعبني بلطفه فلا أتخلّى عن عادتي في القراءة على ضوئه. وفي رحلتي قرأت ليلا عن الآخرين كثيرا، فتشت في طياتِهم عما يدلني إليكِ وقد طال الشوق قبل أن أعرفكِ. اقتربت منك فكنت كل يوم أبعد، رحلتُ إليك فرحلتِ عني وأبت حقيقتك بإصرارٍ أن تكتمل. أطلُّ برأسي من النافذة وأحدق في النجوم، تقول لي إحداها: " تحدقين في تشابهنا. أليس كذلك؟ في الحقيقة لا تشبه نجمة منّا الأخرى ولا نسعى لهذا التشابه. كل نجيمة تستمد بريق نورها منها فإذا حاولت أن تسرق النور من جاراتها انطفأت. كذا أمركِ والعابرين، لذا أريحي القطار من السفر وفتشي عنكِ فيكِ ". بذلك غابت النجوم وأطلَّ الصباح ووصل القطار المحطة الأولى: "فتش عنك فيك ". كانت هذه رحلة البحث عن ذاتي وعني أشاركها اليوم معكم وإن لم تكتمل بعد .
"فتش عنك فيك" لا تتعارض مع التأمل في قصص نجاح الآخرين وفي تعثراتهم والاعتبار من تجارب السابقين وترك تجاربك اللاحقين. فقط لا تحاول الاستنساخ |
في أوقات فارقة من حياة كل واحد منا، تتبادر إلى الذهن أسئلة وجودية لا نجد معها ذواتنا، لا نجدنا ولا نجد تصنيفنا في لوحة فسيفساء البشر . رونق اللوحة في اختلاف الألوان يبدو واضحا جليا يجذبنا، لكن يصر الواحد منا أن يختار لونا جاهزا يتماهى فيه ويرفض الامتثال لذاته التي تريد أن تتصارع في داخله وتخلق لها لونها الخاص الذي لا يشبه ألوان البشر الآخرين، لونًا تضيف به إلى العالمِ ولو قطرةً من بحرٍ. ونحن نصنع هذا اللون نحتاج لحظةَ صدقٍ حقيقي مع ذواتنا بعيدًا عمّا تكسرُه مرآة الآخرين من صورهم، لحظةً لا يكون فيها غيرنا أمام المرآة. نتأملُ إلينا مليًّا ونرانا بأعيننا. نخلو معنا، نقبع فينا ونتجسس عمّا نخفيه لأن في عمقنا ما هو أعمق منّا وفي ظلمتنا ما هو نور لعتم ضياعنا ولأننا هكذا فقط ننشد النضج الذي لا يُبلَغُ.
عقدة "كن مثله"
تريد الأمهات أن يتفاخرن بنجاح أبنائهن وأن يشدن أمام الجميع بذلك، يزعجهن أن يكون ابن فلانة قد تحصل على علامة أفضل من علامات أبنائهن فيسعين دائما إلى حثهم على بلوغ درجات أعلى من النجاح (أو هكذا يعتقدن أنهن بفاعلات)، "كن مثل فلان "، "كوني مثل بنت علاّنة.. "، أغنيات معهودة لا تتوانى أغلب الأمهات في إطلاقها بمناسبة أو بدون مناسبة. يكبر الطفل وتكبر معه عقدة "كن مثله"، يتيه في حلقة مفرغة لا هو محقق النجاح الذي خالت الأم أنه سيحققه ولا هو محقق ذاته. وليت الأمهات يعلمن أن المنهج السليم لحث أبنائهن على النجاح يكون من خلال تلقينهم تميزهم بالفرادة لا من خلال استنساخهم من نسخ جاهزة.
أنتَ محوركَ
في أول رحلة بحثي، كانت تدور في خاطري فكرة واحدة، أتساءل: "هل يراني غيري في تيهي؟ وهل يعقل أن يراني الجميع ولا أرى نفسي؟ " قد يراك من يظن أنه يعرفك حق المعرفة وحتى من لا تعتقده يعرفك، قد يعرّفوك بما لا تعرف، يشيدون بخصالك أحيانا ويذمونك أحيانا أخرى، يقولون فيك صدقا مرّة ولا يفعلون مرّات أخرى.. وثم ماذا؟! كلّه هراء. ما نفع تعريفاتهم إن كنت لا تراك ولا تعرفك؟ هكذا علمتني محطتي الأولى: وحدك الجدير بمعرفتك ووحدك أحق بأن تجد إجابات لأسئلةٍ تخصكَ ولا تخص غيرك.
جد إجابات لأسئلتك، اعرف من أنتَ وستبلغ بعدها مرحلةً من النضج يصبح فيها كل ما يخص الآخرين خارجَ دائرة اهتماماتك، لن تحاول أن تثبت لهم ما لا تريد ذاتك إثباته لذاتها، وستتيقن حينها أنكَ محورُك ونبراسك ونقطة بدايتك ونهايتك ومنك وإليك تؤول. و"فتش عنك فيك" لا تتعارض مع التأمل في قصص نجاح الآخرين وفي تعثراتهم والاعتبار من تجارب السابقين وترك تجاربك اللاحقين. فقط لا تحاول الاستنساخ.
إن لم تكن قد قررت الارتحال بعد بحثا عنك فقد آن الآوان لتفعل لأنه سيكون ثقيلًا عليك أن تنعتق من أغلال ضياعك إن تأخرتَ في اللحاق بقطار رحلتك، ولأنه ليس هناك أسوأ من العيشِ متخبطا بين الأنماط لا تملك الانفكاك منها |
الأمهات في حديثهن عن الأتراب الناجحين يجب أن يتخيرن الكلمات والأسلوب ليكون هذا الحديث فعلا من باب الحث والاقتداء. وأنتَ حين تبهر بقصة أحدهم فلتجعله ملهمك لا نسختك الأصل. فالحياة سيرورة بحث يعترضك فيها الكثير، تلهمك بعض الألوان للونك وتساعدك ألوان أخرى لترتسم لكن عليك أن تتخلص من عقدة "كن مثله" وتكون في نهاية المطاف لونك المميز. تتواصل رحلة بحثي التي كما أخبرتكم سلفا أنها لم تكتمل، لكن قبل ذلك أجدني بحاجة لوقفة طويلة في المحطة الأولى أرتاح فيها من اللهاث، أقف أفكر بجد في خطواتي القادمة إلى أين تمضي. فحين أدركت ما وصلت إليه في محطتي الأولى أصبحت أوسع أفقًا وأكثر قدرةً على تحديد محطاتي القادمة والأهم من ذلك أنني اقتربت من سعادةٍ داخليةٍ أنشدها منذ زمنٍ بعيدٍ.
أمّا أنتَ إن لم تكن قد قررت الارتحال بعد بحثا عنك فقد آن الآوان لتفعل لأنه سيكون ثقيلًا عليك أن تنعتق من أغلال ضياعك إن تأخرتَ في اللحاق بقطار رحلتك، ولأنه ليس هناك أسوأ من العيشِ متخبطا بين الأنماط لا تملك الانفكاك منها. اكسر جمودك، ارتحل! وصيتي الأخيرة لك: لا تحاول أن تسرق النور من غيركَ فتنطفئ، بداخلك نور كثير يكفيكَ، نور ينتظرك لتريه النور فلا تتوانى في ذلك.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.