منذُ بدايات انحراف النفسِ البشرية عن جِبّلة الاستقامة التي فطرها الله عليها، كانَت بداية انحراف الحركة النسويّة في تارِيخ هذا الكون، هذا إن لم يكُن انحراف هذه الحركة قد تزامنَ مع أول حيادٍ عن مِنْهاج اللّه في أرضه، حين قامتِ المرأة بالعصيان والتمرد على أمر الله، ومن ثم على الثوابت الكونية التيّ لا تتغير ولا تتبدل، وصيرورةِ هذا التمرد لظاهرة شعبية نسوية، ووصولاً لتمردها وتحررها من سطوة الرجل -أو كما تدّعي- والتي تعتبر نتيجة طبيعة لسلسة العصيان السابقة، بل و أخيراً تغوّل هذه الرغبة لمحقِ كُل من يقفُ أمامها، ليمنعها من فرض سطوتها على تسيير زمام أمور هذا الكون.
وحتّى يتم توصيف ما آلت إليهِ هذه الحركة، يجبُ علينا تحديد مفهومها، وتأطير حدودهَا، وهذا المجال الذي لم يتفق الباحثين والأكاديميين والمهتمين فيه على مفهومٍ واحد، حيث أنهم ربطوا المفهوم بالخلفية الدينية أو الثقافية لهذه الحركة، والتّي يفترض أن تكُون في البلدان الإسلامية حركة نسوية بخلفية فكرية إسلامية راشدة طبقًا لثقافة المجتمع، تنظّم سيرها الحريات الممنوحة لها من التشريع الإلهيّ، وتكون وبثقةً تُجدد انبعاث روح الشخصية الخديجية، التّي تعد رمزًا حقيقيًا كأول شخصية إسلامية توائم بين الأنوثة ومرأة الأعمال، بين الزوجة والقائدة، بين الخليلة والقدوة.
الحركة النسوية بمفهومها الغربي المعاصر ظهرت نتيجة للتصور الخاطئ لمفهوم المرأة، من قِبل رموز الفكر الغربي (اليوناني سمّه إن شئت)، ونتيجة لهذا الفهم المغلوط البشع، زُرعت بذرةُ الحقد والكره في دواخل النساء، ضد المجتمع والرجل والدولة والدين، وحتى الإله الذي كانَ في لحظةٍ قريبة هو الملجأ الوحيد لهنّ، والكنيسة التي تَربيْن على كونها المشفى الروحي لجروحهنّ، حينما صورُوها تارةً أنّها روح شريرة في جسمٍ بني آدمي، وتارةً أخرى أنّها مخلوقٌ بشريّ لكن لا يرقى لمستوى أن يُثَاب في الآخرة بالجنّة.
وحينما غيّرت الحروب أماكن القوى، ومجريات الأحداث في العالم، بدأت نساء أوروبا وأميركا باستغلال التفلّت والفراغ السياسي والاقتصادي، فمن "أوليمت دي جورج" و"سارة ماب دوجلاس"، أوائل من برز في الحركة النسوية الأوروبية والأميركية في القرن التاسع عشر، وصولاً إلى الاتجاهات الثلاث في القرن العشرين، التّي أفرزتها تراكمات نشاط الحركة فيما سبق: (النساء الراديكاليات/ النساء الاجتماعيات/ النساء الليبراليات)، ومن ثم توّحد واندماج مواقف هذه الاتجاهات في توليفة تتدارك من خلالها نقاط الضعف في كل توجه، وباتت الحركة النسوية "الغربية" تتخبط في اضطراب أساساتها، فتارة تنادي بتحررها مطلقًا، وأخرى تنادي بحد حريتها.
الملحوظ عبر التاريخ أن الشخصيات التي تعاني من ضيق أفقٍ واضطرابات في شخصيتها، الشخصيات الباحثة عن سد فجوّة النقص فيها، تفرغ طاقاتها في التمرد على ثوابت مجتمعاتها، تستورد هذه الشخصيات للمجتمع حلول جاهزة، ذات مقاسات أضيق من تدخل عنق مجتمعاتنا عوضًا عن الجدع والأرداف! |
كما فعلت "أندريا دوركين" و"كاثرين ماكينون"، حينما بعثت مسوّدة مرسوم بالسماح للنساء برفع دعوى مدنية ضد إنتاج وتوزيع فن الخلاعة، فرفضت هذه الدعوى رفضًا دستورياً من المحكمة العليا، لمخالفته التعديل الأول الذي طالبت به نساء نفس المجتمع لأجل حرية "فن الخلاعة"، قبل أن يستفحل ويصير إعلام (المرأة العارية)، كما أن "دوركين" و"ماكينون" تلقيتا صفعة قوية من جماعات حركة النساء الليبراليات، وظهرت تجمعات وهيئات معادية لهما بمعنى وبدون معنى، حتى وصل بهنّ الأمر أن يتصدر المشهد حراك باسم "حركة الجدات الباحثات عن أحفادهن" وذلك بالأرجنتين.
الجدير بالذكر أننّا هُنا لسنا بصدد إيراد مكامن ضعف وتضاد وهور موقف الحركة النسائية الغربية، المعادية للفطرة ولسنن الله في كونه، بل وكما تحدث الأب الدكتور محمد قطب -رحمه الله- في مقدمة كتابه شبهات حول الإسلام في الطبعة الحادية عشرة :
"فإن تجربتي في حقل الكتابة الإسلامية والدعوة الإسلامية خلال تلك الفترة من الزمان، قد دلتني على أن الرد على الشبهات ليس هو المنهج الصحيح للدعوة. وإن المنهج الصحيح هو عرض حقائق الإسلام ابتداءً لتوضيحها للناس، لا ردًا على شبهة، ولا إجابة على تساؤل في نفوسهم نحو صلاحيته أو إمكانية تطبيقه في العصر الحاضر، وإنما من أجل البيان الواجب على الكتّاب والعلماء لكل جيل من أجيال المسلمين، ثم لا بأس من الوقوف عند بعض النقاط التي يساء فهمها أو تأويلها.. من قبل الأعداء والأصدقاء سواء".
وهذه هي المنهجية المتبعة هنا عند الحديث عن حركة النساء في العالم الإسلامي، والتي نقصد بها الحركة المنضبطة بمنهاج وحدود الشرع، لا عن الحركة النسوية التحرريّة، أو كما تعرِف بنفسها: "الحركة النسوية التنويرية التحررية من الهيمنة الذكورية والأصولية"، والتي من أبرز رموزها "نوال السعداوي"، أما الذكورية فيقصدون بها الرجل الشرقي، والأصولية يقصدون بها شرائع الإسلام السمحة، التّي حوّلت كل أتباعها من النساء -بما فيهم نوال- من العدم وصفرية القيمة، إلى الوجود ومشاركة عجلة الحضارة، والملحوظ عبر التاريخ أن الشخصيات التي تعاني من ضيق أفقٍ واضطرابات في شخصيتها، الشخصيات الباحثة عن سد فجوّة النقص فيها، تفرغ طاقاتها في التمرد على ثوابت مجتمعاتها، تستورد هذه الشخصيات للمجتمع حلول جاهزة، ذات مقاسات أضيق من تدخل عنق مجتمعاتنا عوضًا عن الجدع والأرداف!
مما يجدر رسم حدوده في منطلقات الحركة النسائية الإسلامية هو (التّصور)، والذي نقسمه تجاه ثلاث ركائز رئيسية:
أولاً، تصورها للمرأة:
هو تصوّر مجرد من كل الخرافات الأسطورية، وعبثيات فكر الشواذ، وبمعنى بسيط جدًا هي تنظر للمرأة أنّها أنثى الإنسان، وهي المناصفة للنوع الإنساني من حيث النشأة والوجود، والمناصفة أيضًا في عملية التكاثر البشري والحضاري.
ثانياً، تصورها تجاه نفسها:
هي حراك جماعي كجزء من الحراك البشريّ لأجل إعمار الأرض، وشريك رئيسي في إعلاء شأن وتمكين الحضارة الإسلامية من بسط سلامها وعدلها على البشرية أجمع، وذلك بالحفاظ على الوسائل المشروعة والمتاحة، لأجل تحقيق هذه الغايات المشروعة.
ثالثاً، تصورها لعلاقتها مع الرجل والمجتمع ككل:
قائم تصورها بهذا الشأن على علاقة النفس الواحدة المكونّة للأمة البشرية، تلك النفس التي لا تحمل في الأصل صفة ذكورة ولا أنوثة، تتساوى معه في عموم التكليف -إلا ما استثناه الدليل لخصوص المحل-، وكما قال شيخنا فريد الأنصاري -رحمه الله- في كتابه سيماء المرأة في الإسلام: "فالوجود البرزخي إذن هو وجود نفساني واعٍ، وإنّما البدن في الإنسان لباس طيني فان! ومن هنا فإنّما خاطب الخالق -جل وعلا-الإنسان باعتباره (نفسًا) على سبيل الاشتراك… سواء كان الخطاب متعلقًا بالتكوين أو كان متعلقًا بالتكليف".
لكن ما يثير الجدل حقًا، هل إضافة لفظ النسوية لحركة النساء ذات الخلفية الإسلامية، هو إقحام العمل الإسلامي في وحل التخلي عن المبادئ، لأجل محاذاة ومناددة الحراك الغربي للمرأة؟ وهل هذه التسمية تعني الاعتراف بوزن الحراك النسوي الغربي؟ ومحاولة مُجاراته؟ …يٌتبع
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.