لكنها ذات يوم وعلى غير عادتها، شدتني من ردائي وجذبتني نحوها بكل قوة، وبدل أن تربت على كتفي كما اعتدت، قرصتني من أذني اليمين بقسوة لا أراها إلا لهدف لم أفهمه حينها، وقالت بلهجتها العامية البسيطة: "أوعك تكون عريف الصف يما"!
مر على تلك الحادثة عقد ونيف من الزمان، وما زلت إلى اليوم بين فينة وأخرى أتحسس موضع قرصتها في شحمة أذني، وأخال أنها ما زالت محمرة حتى اللحظة، وأطرح السؤال تلو الآخر على نفسي.. "أوعك تكون عريف الصف يما"
ترى لماذا هذا التحذير الصارخ والقاسي؟ ما الذي أزعج أمي في مهمة العريف؟ لماذا قرصة الأذن هذه لطفل غض كانت تكفيه الإشارة فقط ليُنفذ ويطيع؟
صفة العريف هذه جاءت كمثال بسيط يوضح الصورة التي لا تغيب عنا جميعاً، وبالتأكيد لا أقصد بها أشخاصا بعينهم بأي حال من الأحوال، وإنما جاءت كمدخل للغوص في أعماق القصة والموضوع.. |
عقليتي الصغيرة حينذاك صورت لي أمي بأنها تعاديني وتحبط الحس الرجولي داخلي، وتقتل روح القيادة في شخصيتي، فقد كنت أنظر إلى مهمة العريف أنها مبعث للفخر ومصدر هام لفرض الهيمنة والسيطرة، كيف لا والعريف حينها كان يقف أمام صف مكون من "40" طالب يتحكم في عدد الأنفاس التي تخرج من صدورهم، ويحصي عليها كل شهيق وزفير، وتمتمةٍ ووتوتة.
ليس هذا فحسب، فقد كانت هذه المهمة أيضاً مدعاة للفخر والانتشاء بهذا الدور البطولي الذي يقوم به الطالب داخل الصف، فكانت جارتنا لا يخلو حديثها مع نساء الحارة من عبارة "أنا ابني عريف الصف"، بكل فخر وانشراح، وسط إعجاب من بعضهن وامتعاض من أخريات، وحينما كان يأتي والد أحدهم يسأل عن مستوى ابنه الدراسي يبادره الأستاذ مباشرة ويقول "ما شاء الله عنه، هيو عريف الصف".
صحيح أن أبي لم تسجل له حالة دخول إلى المدرسة سوى مرة واحدة حينما كنت في الصف الأول الابتدائي، حيث نسيت يومها كتاب التهيئة – إن أسعفتني الذاكرة – ولحقني أبي به خوفاً من عقاب الأستاذ لي، إلا أنني كنت دوماً أشعر بالغيرة حينما يُثنى على أحد الطلاب أمام والده بأنه عريف الصف.
لماذا إذا القرصة يا أمي؟ ولماذا هذا الحرمان من هذا الشرف الكبير؟
آآآه كم كانت بعيدة النظر… كانت بعيدة النظر، قارئة للواقع، ومستشرفة للمستقبل وأراها وكأنها اليوم تقول لي هيّا انظر من حولك وأخبرني أين هم عرفاء الصفوف؟ أين هم من كانوا يخبرون الأستاذ أنك أخرجت نفسا مزعجا وعطست بصوت عالٍ آذى أذنهم الرقيقة؟ أين من كانوا يجلدونك وزملائك بسياط الأستاذ؟
أراهم اليوم يا أمي متواجدين في كل مكان، منتشرين في ميادين الدنيا كلها، وما زالوا حتى اللحظة يمارسون مهنة عرافة الصف، ولكن بأساليب مختلفة وطرقٍ ملتوية تحفظ عليهم شيئاً من هيبة عمرهم.
أرى أحدهم يا أمي يمتطي منصته الإعلامية يطبل ويزمر لسيده دون كلل أو ملل، وهمه الأكبر نيل رضاه وملء جيبه المخروق الذي ينقص كلما زاد، كما كان هم عريفنا رضا الأستاذ وشيء من علامات المشاركة على نشاطه.
وأرى آخر يا أمي لم ترهبه قداسة منبر رسول الله – صل الله عليه وسلم – يقف عليه داعيا ومنظرا لكل ما يوافق هوى سلطانه ورب نعمته، يحلل له الحرام ويحرم له الحلال، ويُفصل له الأحكام الشرعية كما يريد، تماما كما فصَلَّها عريف صفنا على مقاس بعض الطلبة الذين كان يهابهم فكانوا هم من القائمة المحرم الوشاية عنها ويعوضها بنا نحن المساكين!
أراهم في كل مكان، بالمقاهي وفي التكاسي وفي الجامعات، يراقبون كل كلمة وحرف، ويسترقون السمع بلا كلل ولا ملل، وهمهم التقاط فتات كلمات خرجت من فم أحدهم ليضعوا عليها ما شاؤوا من المقبلات والبهارات حتى تصبح معلومة ذات ثقل في نظر كبيرهم.
أراهم في شتى الميادين، يمجدون كل من ابتعد عن المجد مسافات وأميال، يرفعون الوضيع ويضعون الرفيع، يسحجون لمن لا يستحق، ويتطاولون على كل ذي حق عرف طريقه واتبع عقله وهداه ولم تغريه دعوات العبودية والذل مقابل شيء من الفتات.
هكذا هم اليوم يا أمي، وها أنا أعود لك اليوم بعد ما يقارب عقدين من "القرصة" لأُقبل اليد التي قرصت، والثغر الذي منع بسمته الجميلة من الظهور، واللسان الذي بدا جامداً بعدما اعتدت على سيلانه مذ كنت في رحمك قبل مجيئي إلى هذا العالم.
شكرا أمي… لن أكون يوما عريفا للصف
"صفة العريف هذه جاءت كمثال بسيط يوضح الصورة التي لا تغيب عنا جميعاً، وبالتأكيد لا أقصد بها أشخاصا بعينهم بأي حال من الأحوال، وإنما جاءت كمدخل للغوص في أعماق القصة والموضوع، وبالإمكان أن نرى شخصية عريف الصف هذا في كل مكان، لكنها بالنهاية لا ترمي أحدا بعينه وإنما تعالج الموضوع بلا شخصنة".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.