سبعة عشر عامًا هي عمر القناة كانت كفيلةً بأن تأتيَنا بالمستقبل، بل أن يقدمنا الدهر إليه قربانًا تأكلهُ النار، أصبحنا شباب المستقبل كما أخبرنا شعار المحطة، تلك الجملة التي كنا نرددها مع التلفاز مستبشرينَ ونحن نلهو في باحات الطفولة البريئة، نعم أصبحنا شبابًا وصِرنا في مستقبلِ سبعة عشر عامًا مضت.
ولم يكن لخيال طفلٍ مِلؤهُ الفضولُ ليَعجزَ عن أن يحيكَ صورةً افتراضيةً لهذا المستقبل، وفي روح الطفولة وبراءتها يكمن الخيالُ والحب والخير والمثالية، فلا عجبَ أن يقترن الخيالُ بالجمال فيبزغ المستقبلُ صورةً جميلةً في عقولنا آنذاك تشابه صورةَ كوكب زمردة، بل قد تفوقها أحيانًا كثيرة، طرقاتٌ تحفها الثمرات، جبالٌ من الحلوى، أوديةٌ مزهرة، وأنهارٌ من عسلٍ مُصَفَّى، تلك كانت صورة المستقبل المبهجة تتقلب بين وديان الكوكب الوردي، وتحرك في قلوبنا كثيرًا من البِشر والتفاؤل.
شببنا ومِفتاحُ هذا العالم جهازُ تحكمٍ بين أيدينا، ندلُفُ إليه من خلالِه، كان عالمًا ضيقًا صغيرًا على جمالِه، ممتلئًا على بساطته، تمامًا كحياة همتارو الصغير، حين كان يترك البيت ساعةً من نهارٍ يلجُ فيها عالمًا من المرح والمغامرة، كانت حدودُ حياتنا أشبهَ بأسرة أبي طلال في "دمتم سالمين"، جيرانٌ وأصدقاء، وأسرةٌ صغيرةٌ يؤلف بينها الود والمرح، لم نصطدم بشيء من سياسات الأنظمة، ولم تبطش بنا أيدي حكومةٍ طائشةٍ، وإن أرق مضجعنا ما نسمع من جرائم الاحتلال الصهيوني آنذاك بحق أهلنا في فلسطين.
كان واقعُ الأمة محبرةَ القلم كلما ماجَ واضطرب، ازداد الحبرُ وعنت إليه أقلام الأدباء، وكلما سكن الواقع وأُغمِدت السيوفُ أغمِدت معها كثيرٌ من الأقلام. |
على أن أغلب الخيال يكذبه الواقع، وأكثر الظن يدحضه اليقين، فسرعان ما إنهار صرحُ المستقبل المبنيِّ في عقولِنا على أساسٍ رخوٍ تزينه ألوانُ الرسوم المتحركة، يتطارد فيه توم وجيري، وينبعث من جنباته صوت نقار الخشب، وسرعان ما قامت ثورات الربيع العربي كالمطر الذي يسبق الجفاف، والوصل الذي يعقبه الهجر، تونس، ثم مصر ولبيبا وسورية واليمن، تخفق الثورة في إحداهن وتنجح في الأخرى، ثم لا تلبث أن تلحق برفيقاتها مرةً أخرى، هكذا ابتدأ الأمرُ منذ سبعِ سنين، وهكذا وجد هذا الجيلُ نفسَه في قلبِ معمعةٍ تعلم الأنظمة ألا ناقةَ للشبابِ فيها ولا جمل، بل إنهم أنفسَهم هم الناقةُ والجمل.
استضمنا بمستقبلٍ أشبهَ ما يكون بكوكب أكشن، بل إنه على الأرجح أشد منه ظلمةً، وأفتك منه يدًا، تملؤه ضحكات الأشرار المتهدجة، ومشاهد الرعب التي تقشعر لها النفوس وأيُّ رعبٍ أعظمُ من صورة إيلان المُلقى على ساحل البحر، وأي بطشٍ أمَرُّ من بطش طاغيةٍ قتلَ مئاتِ الآلاف من شعبٍ أعزل، وأي قهرٍ أشدُّ من قهر بلدةٍ تباد عن بكرة أبيها، وأيُّ فزعٍ قد يصيب المرءَ أكبرُ من فزعه لرؤية أطفال أهلكتهم أسلحة الكيمياء!
هنا وجد الأدباء والشعراء أنفسَهم بين زخاتِ الرَّصاص وطلقاتِ المدافع، تتطاير أوراقُهم وعمائمُهم في أعاصيرِ الثورات، وتخط أقلامُهم مآسي الأمة بمدادٍ من دماء الشعوب، كان واقعُ الأمة محبرةَ القلم كلما ماجَ واضطرب، ازداد الحبرُ وعنت إليه أقلام الأدباء، وكلما سكن الواقع وأُغمِدت السيوفُ أغمِدت معها كثيرٌ من الأقلام.
لكن استنكارَ الأدباء على كُلٍ لم يُغن عنا شيئًا، ولم يغير من واقع الأمر أو من أمر الواقع قيدَ أنملة، فإنه يُملِي على القلم ولا يُملِي عليه القلم، لم نجد صورة المستقبل التي ظلت محفورةً في عقولنا لسنينَ غيرَ أكوامٍ من أنقاضِ البيوت، وتلالٍ من أشلاءِ البشر، وأنهارٍ من الدماء. ولم يكن المستقبلُ زمرديًا كما ظننا، بل كان نابعًا من ظلمات كوكب أكشن، تارةً في سورية وتارةً في العراق واليمن، ظلماتٌ بعضها فوق بعض، المبصر فيها كالضرير، بل إن الضرير مَعفِيٌّ مما قد يرى المبصر في ثنايا الظلمات. فكم طِفلٍ رأى جمالَ الدنيا مِن نافذةِ "سبيستون" هو الآن رميمٌ تحت الأنقاض! وكم نازحٍ ابتلعه البحرُ ولم يزل التلفازُ يردد في أركان غرفته "سنعود بعد قليل" ولا يعلم أنه لن يعود.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.