شعار قسم مدونات

حدِّث ولكن هناك حرج

blogs خلاف زوجي

تلك الليلة البائسة التي أدركت فيها أننا وقعنا في محل سكننا المؤقت بأحد المدن الساحلية إلى جوار منزل عجيب أمره مريب، كنا في أحد العطلات الصيفية، نقضي الليل سهرًا والنهار في النوم في محاولة للاستماع بكل ما نُمنع منه خلافًا مع أشهر الدراسة، التقطت أذناي ذات ليلة صوتًا مرتفعا يغط في عراكٍ شديد، تطلعت من النافذة فلم أجد أثرًا لصاحبه، لقد انقطع فجأة فتخيلت أنه شيء عابر وانتهى أمره.

أيام قليلة مضت، وتجدد الصوت على مسامعي، ولكنه بات أكثر وضوحًا واستطالة هذه المرة، حسنًا أدركت أخيرًا أنه خلافٌ بين زوجين، فاتركوني أحدثكم قليلًا عن ملافظ السبابات الواضحة جدًا، هنا حيث يُنعت أبويها بأقذع الشتائم، وهنا أكدت لي الصرخات المفزعة عبر أحجار الجدارات الفاصلة فيما بيننا أنه قام بدفعها حتى ارتطم هيكل جسدها به، وهنا شيء ما قد هوى على الأرض لا بد أنها هي أيضًا.

لم أبرح مقامي حينها، أو لنقل أنني واقعيًا لم أستطع! حالة من الذهول خيمت عليّ، ربما لأنها كانت المرة الأولى في حياتي التي أحضر فيها شيئًا كهذا، تخبطت دواخلي وراودني مزيج من مشاعر الخوف مع الأسى الشديد وبت أتساءل كيف لاثنين كرّمهما الله فجمعهما الميثاق الغليظ أن يكون تحاورهما بهذا الشكل الدنيء، كيف تتجرأ كلماته فتمطر أبويها بوابل من السباب والقذف الصريح، ثم كيف لها أن تتحمل مواجع وذكريات لن تُمحى بتعديه ضربًا وإهلاكًا لقواها التي لا يُذكر منها شيء. ما جعل ذهولي شديدًا أنني علمت أن كليهما من أرقى المستويات التعليمية بل ويشغلان مناصب عملية في إحدى البلدان الأجنبية، فما المبرر أو الخلل الذي يدفعهم إلى نهج طريقة التعامل تلك! 

لم أعد أفهم ولا أعي شيء، أو ربما لم أعد أحب أن أفهم أكثر، إنها طريقتهم وتلك حياتهم!، كل ما أصبح يشغل فكري في تلك القضية هي أبناؤهم، كيف يتعايشون مع هذا الكم الهائل من العراكات اليومية الملحوقة بالسبابات والضرب.

ومن ثم فعلى مدار المرات الكثيرة التي وقع فيها الشجار بينهما تفهمت أن طريقته تلك أمرًا اعتياديًا للدرجة التي جعلتني أحدث نفسي: "يا الله، كيف تتحمل ذاك الصراخ المتواصل بلا أي انقطاع، هل بإمكانها أن تُجري حديثًا معه أصلا؟!"، كونت مخيلتي أنها بالطبع تبغضه وتكره الحياة معه ولكن ثمة شيء ما يجبرها على مواصلة العيش معه. ولكن مع الأسف كانت صاعقة أليمة، حين توصلت من مواقف عدة فيما بعد أنها تحبه، بل أنها بالفعل تكن له الاحترام والتقدير أمام العامة أيضًا.

قابلتهم يومًا في أحد شوارع المدينة ليلًا كانوا يسيرون في تناغمٍ متأبطًا ذراعها يتناولون صنفًا من الحلوى ويتضاحكون سويًا. مرض ذات مرةٍ وكانت على سفر، هاتفت ثلاثة أرباع نزلاء السكن -بدءًا من الحارس إلى الطابق الثالث عشر- رغبةً في الاطمئنان عليه كي يهدأ روعها ويطمئن قلبها، صرت أسبح بعجائب حول قوة الله وقدرته في شئون خلقه تلك! 

لم أعد أفهم ولا أعي شيء، أو ربما لم أعد أحب أن أفهم أكثر، إنها طريقتهم وتلك حياتهم!، كل ما أصبح يشغل فكري في تلك القضية هي أبناؤهم، كيف يتعايشون مع هذا الكم الهائل من العراكات اليومية الملحوقة بالسبابات والضرب. والأدهى والأمر كيف أصبحت رؤيتهم لمفهوم التحاور والتفاهم بين الزوجين، وإلى أي مدى ترك ذلك أثرًا في دواخلهم ومن ثم ساهم في تكوين شخصياتهم!  شخصياتهم التي ستخرج إلى مواجهة المجتمع وخاصةً في بيتهم بعد الزواج، على الأغلب سيكون الشابُ وباءًا عليه بسوقية تصرفاته وتكراره لما وجد عليه آباءه من سبٍ وإهانةٍ لتلك التي اختارها واختارته.

ولكنني أقول، كونك كنت ضحية لمعايشة سلوكيات كارثية فإن ذلك لا يعطيك الحق أبدًا في سلك نفس المسار بحياتك حين يأتيك الاختيار! المرأة لم تُخلق من ضلعك لتخشاك وتتلعثم أحرفها عند الحديث معك، خُلقت لتحتويها وتشعر إلى جوارك بالأمان المنشود من كل مخاوفها في تلك الحياة، خُلقت شريكةً لك لتوازن عاطفتها عقليتك فيكتمل أمركما معًا، خُلقت ضعيفة تُبكيها بعض مشاعر قد لا تحرك فيك ساكنًا، لكنها تتحمل أعوامًا ما لا تقوى أنت على تحمله يومًا، وتلك رحمة من الله أن خلق كل شيء فجعله موازين وقدَّره تقديرا.

كن على ثقة بأن تعاملك مع زوجتك هو مثال حي يُعرض لحياة أبنائك مستقبلًا، كيفما تعاملت سينتهجوا طريقتك فاسلك ما شئت فإنها سيرتُك ولكن تذكر دائمًا أنك المسئول الأول عما يرثه عنك أبناؤك فأحسِن، واتق الله في رعيتك ولا تضيعهم.

أن مشاعر الحب وحدها – بخلاف المستويات المادية والاجتماعية – لا تكفي، أسس التربية على الاحترام والتفاهم وحدها فقط هي الكفيلة بصنع بلدان ومدن فاضلة كريمة، فاستعينوا بالله وتريثوا كثيرًا وأحسنوا اختياراتكم.

وإنني لأجد نفسي أقف كثيرًا وأتألم على أعتاب حياة تلك التي تعثرت أقدارها في أجواءٍ منزلية بغيضة كتلك !، كيف لها أن تدرك قيمة ذاتها وتحفظ قدرها، هل تؤمن أن الحب لا بأس من أن يجعل من الشخص مداسًا للشريك كي تستمر حياتهما معًا، هل يمكنها أن تدرك يومًا حقيقة أنها مخلوقٌ كرّمه الله وأنها تمتلك الحق في أن تتحاور وتبدي الاعتراض عما لا تراه صحيحًا في نظرها؟!، أشعر بغصةٍ في حلقي كلما تخيلت أحدًا يُساءلها "كيف ترين نفسك كزوجة؟" 

مع ارتفاع نسب معدلات الطلاق في الدول العربية وعلى رأسها مصر، فأنا أرى أن الأزمة تكمن في أنصاف الحقائق المعلنة من البدايات، أختصرها في أسلوب "حدّث ولكن هناك حرج، ومن ثمّ فلا داعي لأن أحدثك عنه من الأصل!"، سأترك الوقت يُعلمك كل شيء فور أن يجمعنا منزل واحد، وستفاجئ بمفردك حين تدرك أنك بت أمام أمر واقعه مرير، لترى بعينك "الحرج" أصنافًا وألوانًا من العذاب والتي لو كان لك علمًا مسبقًا بها لما أقدمت شفتيك على إتمام بسملة الفاتحة من البدايات مثلًا!

إننا في حاجة ماسة إلى الشفافية التامة في عرض الحديث وذكر حرجه معه، الاعتراف بالأخطاء هي بداية الإصلاح، فمتى تم اعتزالها صُحح المسار، وأقول في الزواج أن مشاعر الحب وحدها – بخلاف المستويات المادية والاجتماعية – لا تكفي، أسس التربية على الاحترام والتفاهم وحدها فقط هي الكفيلة بصنع بلدان ومدن فاضلة كريمة، فاستعينوا بالله وتريثوا كثيرًا وأحسنوا اختياراتكم .

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان