شعار قسم مدونات

تأجيل الكرامة

blogs - freedom
إنه ما من جهالة تحل بأمة أكبر من الجهالة بسنن الله في الأرض عبر العصور، وما من خرافة تعشعش في رؤوس الخلائق أشد وطأة من خرافة أمن الإستبداد على فطرة الناس وأخلاقهم وكرامتهم.

فكثير من الشعوب الجاهلة تؤجل حريتها وكرامتها ظنا منها أن المستبدين سترق قلوبهم لحال الأمة، وهذا النوع من الشعور إنما هو مسلك العبيد الخاضعين، لا مسلك الأباة المجاهدين، وليس مسلكاً تؤيده الفطرة السليمة لأنه دعوة للجبن ودعوة للعار.

بنظرة تفحصية دقيقة، لتاريخ البشر الحافل بالتدافعات والسقوط والنهوض، والإنتكاس واليقظة، بالنظر لذلك التاريخ الغابر الذي يمثل بوصلة فريدة وعبرة خالدة تشكل المزيج والخلطة المتناسقة لحياة البشر، يمكن أن ندرس واقعنا.

عندما اشتعلت الثورات العربية ظل البعض يرددون "فتنة فتنة"، ويتغنون بما أسموه "نعمة الأمن" وهم ممرغون تحت أقدام الطغاة، وكرامتهم مداسة في كل مؤسسات الدولة، ينهرون من هنا ويجلدون من هناك، يعيشون في حظائر الجلادين، يتذوقون كل يوم مرارة الطاعة العمياء لمستبدين لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا.

ولا يمكن لأحد تحليل الواقع الذي تعيشه الشعوب والأنظمة التي تحكم، بعيدا عن سياق التاريخ وسننه الحتمية المطبوعة على سلوك الناس بل وسلوك الكون كله.

ومن هنا فإن الناظر بعين المتفحص اليقظ يجد أن الأمم التي تؤجل كرامتها وحريتها تدفع أثمانا مضاعفة عن قريب أو بعيد جراء تفريطها بجوهر فطرتها التي ميزها الله بها عن سائر الأمم والمخلوقات، وللكرامة والحرية أثمان، ما في ذلك شك وحتمية التدافع وسنته الجارية في الكون تشهد بذلك، إلا أن الثمن الذي تدفعه الشعوب لنيل حريتها وكرامتها يتضاعف كلما تأخرت تلك الشعوب عن دفعه.

المستبدون يستغلون كل غفلة من الجماهير في تزويد أمنهم وقوتهم تأهبا لكل صحوة تعصف بهم، وهذا الأمر جلي بالنظر إليه خاصة في أوطاننا العربية، حيث نجد كل المستبدين يستثمرون غفلة الشعوب في زيادة العسكرة والحس الأمني لعروشهم الإستبدادية، بل وتمتد تلك العسكرة لتشمل المؤسسات المدنية وذلك لأن المستبد كلما كان ظالما إزداد خوفه من الناس.

وغفلة الشعوب أو محاولة تهربها عن المبادرة في تصفية الإستبداد والظلم والمبادرة في دفع أثمان الحرية، يوازي تلك الغفلة، تضاعف في الدماء وتضاعف في البذل عاجلا أو آجلا، فالثمن مدفوع مدفوع، والأولى للعقلاء من الشعوب تعجيل دفعه فطعم الكرامة أحلى بكثير من سكون في ظل القمع والإستبداد لأن هذا السكون والهدؤ إنما هو هدوء مغشوش وسكينة مفخخة، وبتعبير الشنقيطي فالحياة في ظل الإستبداد "حرب أهلية مؤجلة".

عندما اشتعلت الثورات العربية ظل البعض يرددون "فتنة فتنة"، ويتغنون بما أسموه "نعمة الأمن" وهم ممرغون تحت أقدام الطغاة، وكرامتهم مداسة في كل مؤسسات الدولة، ينهرون من هنا ويجلدون من هناك، يعيشون في حظائر الجلادين، يتذوقون كل يوم مرارة الطاعة العمياء لمستبدين لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، ثم يتوهمون بأنها "نعمة الأمن"، أي أمن هو ذاك الذي يصنع من الشعب قوافلاً للرقيق، أي أمن هو ذاك الذي يجعل من الناس كالدجاج في الشتاء القارس.

الأمن هو أن يعيش المرء حرا في داخله، ولو على أصوات الدبابات والصورايخ، الأمن هو أن أدافع عن أعراضي حتى آخر رمق، لا أن أختبئ في دولة بوليسية باطشة، وأتغنى بأمن العبودية والذل.

وما أكثره أمنا وطمأنينة ذلك السوري عاري الصدر الذي يقبل على دبابة مدرعة بهتاف صادع يشدو به في هدوء "فتنت روحي يا شهيد" في بداية الثورة السورية المباركة.

إن البلدان التي أشتعلت فيها الثورات هي أكثر البلدان قرباً من الأمن والأمان الحقيقي، بعكس البلدان التي تؤجل يوما بعد يوم ضريبة الكرامة، لتتراكم عليها بعد عقود أثمانا أضخم بكثير من تلك الشعوب التي بادرت لنيل خلاصها من عقدة الظلم والطغيان.

وما الضرائب الفادحة التي تدفعها الشعوب الثائرة اليوم كفاحا لنيل حريتها وكرامتها، إلا أثمانا تراكمت جراء سكوت طال أمده على الإستبداد والقهر، فالربيع العربي هو نتاج طبيعي لتراكم المظالم عبر السنين والقرون، وهو إفراز وانفجار تحتمه سنة الله في الأرض جراء التخاذل التاريخي من أجيال الأمة في إستئصال الظلم وقطع دابره.

وعليه نقول: ما من مفهوم أفشل في فهم ثورات الربيع العربي من ذلك المفهوم المهترئ والمفتت الذي يصور الثورات على أنها فتنة حلت بالأمة وخراب سيقضي على الأخضر واليابس، بل هي تمهيد للخير وجهاد مشروع بل فريضة تحتمها فطرة البشر وشريعة الله.

وأي عاقل هو ذاك الذي يفضل سكوت المظلوم على الظالم بل وتصوير جهاده لنيل حقه بأنه فتنة وخراب، وكم صدق المبدع محمد إلهامي في مقاله "في هجاء الوطن" عندما قال: (الكاذب الجاهل من يتخيل أن مآسينا بدأت بالثورات، بل الواقع أن مآسينا بلغت هذا الحد الشديد التكلفة لأن الثورات قد تأخرت عن وقتها عقوداً طويلة، حتى إستبدت الأنظمة بالشعوب وأتسع الفارق بين الطرفين في القوة).

إن الشعوب التي ذاقت ويلات العذاب والبلاء في سبيل حريتها وكرامتها، وإن لم يتحقق لها ذلك حتى الآن، فإنها تعدت خطوات ضخمة في التقدم، بعكس الشعوب التي يحجبها الجهل يوماً بعد يوم عن تأجيل كرامتها وعن البعد من نور الهدى الكامن في ضريبة الحرية، والتي ترتفع بقدر تأخر دفعها.