وتتشعب هذه الثقافة ضمن اتجاهات ثلاثة هي:
الاتجاه الديني الذي كان يدعو إلى الإبقاء على الخلافة وتعزيز وحدة الشعوب الإسلامية تحت لوائها، وكان هذا الاتجاه يعزو ضعف الدولة وانحدارها إلى الابتعاد عن تعاليم الدين، وانتشر هذا التيار بين العامة وعلماء الدين وأصحاب الطرق الصوفية، وتشكل الأحزاب ذات الجذور الإسلامية امتداداً لهذا الاتجاه.
والاتجاه القومي التركي، وكان هذا الاتجاه يدعو إلى ضم الشعوب التركية في آسيا الوسطى في دولة موحدة، باعتبارها الوطن الأصلي لهم، وتعد الأحزاب القومية القائمة حالياً في تركيا امتدادا لهذا الاتجاه، أما الاتجاه الثالث أخذ على عاتقه تأسيس دولة تركية في الأناضول فقط، والقطيعة التامة مع العهد السابق، وتأثر هذا الاتجاه بأفكار الثورة البلشفية، خاصة فيما يتعلق بالقطيعة مع الدين، وتزعم هذا الاتجاه مصطفى كمال الذي تمكن من تحقيق أهدافه بعد حرب الاستقلال وتوقيع معاهدة لوزان مع الحلفاء، وقد توج نجاح كمال بإعلان قيام النظام الجمهوري بتاريخ 29 تشرين الأول 1923.
يعود تراجع أحزاب المعارضة في المشهد السياسي التركي إلى أسباب عديدة أهمها التمترس وراء أفكار تقليدية والالتصاق بالمؤسسة العسكرية والسعي لإسقاط الحزب الحاكم. |
كما تأسس حزب الشعب الجمهوري والأحزاب اليسارية الأخرى على هذه الأسس، وقد أدت الظروف الداخلية والخارجية في تركيا الحديثة إلى صعود الاتجاه الثالث مستنداً إلى شرعية حرب الاستقلال التي خاضها رموز هذا التيار في أعقاب الحرب العالمية الأولى ضد الحلفاء الذين احتلوا كثيراً من الأراضي التركية في الأناضول، وتمكن هذا التيار من السيطرة على الجيش حكماً، حيث أن جل رموزه من العسكريين، وأخذ هذا التيار على عاتقه السعي إلى إعادة صياغة شكل وهوية الدولة والشعب، وحدد الأسس التي أراد العمل على ضوئها، والتي تتمثل في الاستقلال ضمن حدود الأناضول وبعض المناطق المجاورة له، والحداثة في كافة مجالات الحياة، بما فيها الدولة والمجتمع وعلمانية الشعب والدولة، وقطع الصلة بكل ما هو ديني، ثم تأسيس اقتصاد يقوم على التصنيع في المقام الأول كما هو الحال في الدول الأوروبية المتقدمة.
وبالإضافة إلى كل ذلك نجد أن هنالك قوى موجودة في الساحة التركية تشكلت من أفكار متمازجة من الثقافات السياسية الرئيسة القومية والدينية واليسارية، وبطبيعة الحال، فإن النظام السياسي في دولة ما لا بد وأن يعكس الثقافة أو الثقافات السياسية للمجتمع الذي يعيش في هذه الدولة بكل ما تحمله تلك الثقافات من مقاربات وتباينات أيضاً، إلا أن خريطة القوى السياسية التي يفرزها الواقع السياسي تمكن قوة معينة من صياغة النظام السياسي وفق ثقافتها السياسية ورؤيتها الفكرية مع أخذ كل الأفكار الأخرى بعين الاعتبار، وفي الحالة التركية تم بناء النظام السياسي التركي وفقًا لرؤية مصطفى كمال ورفاقه من أصحاب الفكر اليساري، إلا أننا نجد ثمة تأثرات بالأفكار الأخرى خاصة القومية، وهذا واضح من فرض اللغة التركية كلغة رسمية على جميع مكونات المجتمع في الدولة الناشئة، رغم وجود نسبة معتبرة من غير الأتراك في هذا المجتمع، كما أن الكماليين تأثروا ببعض الأفكار الليبرالية مثل انتخاب المجلس الوطني الكبير.
وحتى لا أخرج عن جوهر موضوعي حول حالة الأحزاب التركية قبل الاستفتاء على التعديلات الدستورية، فأشير إلى أن بعض المراقبين والمهتمين في الشأن التركي يرى أن نتيجة الاستفتاء على التعديلات الدستورية الأخيرة وضعت أحزاب المعارضة أمام أزمة كبيرة، إلا أن نتيجة الاستفتاء ليست السبب في أزمة المعارضة، ولكنها عمقتها وزادت حدتها.
فالأحزاب التركية تعيش منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي حالة من التراجع والاضطراب، ولم يتمكن أي منها من إحراز فوز يمكنه من تشكيل الحكومة بمفرده، مما جعل الحكومات تشكل بصورة ائتلافية وظلت الحكومات أسيرةً للتجاذبات الحزبية حتى عام 2002 عندما أقصيت جميع الأحزاب التركية عن السلطة لصالح حزب العدالة والتنمية الذي استطاع تعزيز مكانته في الساحة السياسية عبر فوزه بأغلبية مريحة مكنته من تشكيل الحكومة بمفرده مرات متوالية، ومازال يشكلها منفردًا حتى اللحظة، وبعد أن أصبحت كل الأحزاب التقليدية التركية في المعارضة وصلت قيادات تلك الأحزاب إلى قناعة بضرورة إعادة صياغة برامجها وترتيب أمورها الداخلية، كي تتمكن من العودة للمنافسة بقوة في الساحة السياسية، إلا أن الإجراءات التي اتخذتها تلك الأحزاب لم تكن ناجعة.
وندلل على ذلك بحدثين بارزين شهدتهما الساحة التركية، وهما الانتخابات البرلمانية المبكرة التي جرت يوم 2 نوفمبر من العام 2015، والاستفتاء الأخير على التعديلات الدستورية المقدمة من الحزب الحاكم في فقد؛ دلل هذين الحدثين على إخفاق أحزاب المعارضة في التعافي مما تعانيه من تراجع وانكفاء، ففي الاستفتاء الأخير لم تستطع المعارضة إقناع الأتراك برفض التعديلات وكانت النتيجة موافقة أغلبية الناخبين عليها مما عزز موقف الحزب الحاكم في وجه المعارضة رغم أن الفارق بين المؤيدين والرافضين ضئيلة.
مأزق المعارضة التركية لن ينتهي بنتيجة الاستفتاء أو يتوقف عندها فهنالك ارتدادات وتداعيات على البنية التنظيمية لأحزاب المعارضة نتيجة ضجر القواعد وتململها. |
وفي الانتخابات البرلمانية التي جرت في تركيا في شهر نوفمبر من العام 2015، استحوذ حزب العدالة والتنمية على نصف أصوات الناخبين وتراجعت حصة حزب الحركة القومية في البرلمان من 80 مقعدا في الانتخابات شهر يوليو من نفس العام إلى 40 مقعدا وزادت حصة حزب الشعب الجمهوري بمقدار مقعدين عن الانتخابات السابقة. وتراجعت مقاعد حزب الشعوب الديمقراطي الكردي من 80 مقعدا إلى 56 مقعدا، وهذه النتائج تدل على حجم الأزمة التي تعاني منها أحزاب المعارضة التركية ويعود تراجع أحزاب المعارضة في المشهد السياسي التركي إلى أسباب عديدة أهمها التمترس وراء أفكار تقليدية والالتصاق بالمؤسسة العسكرية والسعي لإسقاط الحزب الحاكم دون وضع برامج عملية للنهوض بالبلاد، واستشراء الفساد داخل صف المعارضة خلال العقد الماضي، وتورط عدد من رموزها في فضائح جنسية وأخلاقية قادت إلى استقالات عديدة أربكت تلك الأحزاب وساهمت في فض الناخبين من حولها.
ولم تقم أحزاب المعارضة بطرح برامج جديدة لتحسين أدائها، واكتفت قيادتها بالتصريحات الصحفية والخطب الرنانة دون القيام بخطوات عملية ويضاف إلى ذلك أن بعض الأحزاب التركية لم تكن تعتمد على صناديق الاقتراع وثقة المواطنين في الوصول إلى سدة السلطة، ولكن كانت تعتمد على تدخل الجيش في الحياة السياسية عبر حل أحزاب أخرى والتضييق عليها ومنع رموز مهمة في المجتمع التركي من العمل السياسي، وهذه الآلية تدل كل المؤشرات على أنها انتهت في المشهد السياسي التركي خاصة بعد فشل المحاولة الانقلابية الأخيرة، ورفضها من كل فئات الشعب التركي الحريصة على تجربتها الديمقراطية.
وختاما، فإن مأزق المعارضة التركية لن ينتهي بنتيجة الاستفتاء أو يتوقف عندها فهنالك ارتدادات وتداعيات على البنية التنظيمية لأحزاب المعارضة نتيجة ضجر القواعد وتململها وكذلك الاختبار الكبير الذي تواجهه بتحول البلاد إلى النظام الرئاسي، مما يضعها أمام تحدٍ صعب يتمثل بمدى قدرتها على التكيف مع المرحلة الجديدة.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.