المراهقة الفكرية ظاهرة إنسانية اجتماعية كما ذكرت أنها ترتبط بالفرد والأمم يعني كما أن الإنسان يعيش مراهقة عمرية زمنية فهو يعيش مراهقة فكرية لكن قد تختلف عن المراهقة العمرية من حيث أنها لا ترتبط بمرحلة زمنية معينة؛ بل قد يعيشها شخص في مقتبل عمره وآخر في الثلاثينيات من العمر وآخر في الأربعينيات وهكذا، لكن على الأرجح أنها تظهر في مرحلة الشباب، وهي مرحلة انتقالية تتميز بالبحث والاكتشاف والخروج عن المألوف بحيث يكتشف صاحبها أن وضعه السائد أصبح لا يتماشى مع مستجدات الحياة ومتطلباتها الجديدة والمختلفة، فيبدأ في البحث عن التغيير والخروج من المعهود والسائد ليصل إلى وضع جديد ومختلف عن سابق عهده يمكِّنه من الاستمرار والبقاء ضمن هذا الوجود الفسيح الذي لا يقبل الجمود.
أما المراهقة الفكرية الخاصة بالأمم فهي المرحلة التي تشهد فيها حالة انتقال من الركوض الفكري متجهة نحو النضوج؛ بمعنى هي مرحلة انتقالية يتم من خلالها محاولة التخلص من عبء التخلف والجهل والبحث عن سبيل النجاة فتبزغ في الأفق حركات وتيارات فكرية جديدة تتبناها هذه الأمم وتتلقفها.
المراهق الفكري أثناء البحث ينجذب أكثر للتيار الذي تأثر به، ويتشدد أكثر في أرائه التي تسرَّع في طرحها، فهو لا يبحث ويتحرى بميزان العقل والمنطق؛ إنما همه الوحيد أن يغيِّر وضعه الفكري والثقافي. |
بما أن المراهقة الفكرية مرحلة انتقالية كما ذكرت هذا يعني أنها تشهد اضطرابا وتخبطا ربما، حتى نفهم الموضوع أكثر لننزل لأرض الواقع ونهتم بالمراهقة الفكرية لدى الفرد وسنحاول أن نعيش الحالة بتمثيلية حتى يسهل علينا الفهم وهذا على سبيل المثال وليس الحصر.
شاب في بداية العشرينيات من عمره سئم من الحالة الفكرية والثقافية الموجودة في واقعه والتي يعيش ضمن نطاقها الاجتماعي وحتى أنها مفروضة عليه وتقيد حريته، يترقب ويتابع حيثيات واقعه فيلاحظ تخلفا جهلا كراهية تطرفا عنصرية غوغاء تصارع وتطاحن مستوى تعليمي وثقافي وفكري منحط عقول فارغة ومنغلقة، أساليب بدائية في التعامل مع الظروف وبين أفراد المجتمع الواحد، كل هذه الأمور وغيرها تشكل لديه نظرة سوداوية مظلمة للحياة فلا ملجأ أمامه سوى البحث عن حل ليتخلص من هذه الظواهر التي تحيط به وتخنق عيشه فيتجه نحوى قراءة العديد من الكتب والدوريات والنشرات الفكرية والثقافية للبحث فيها وتمحيصها.
وهنا المفارقة العظمى فمن هؤلاء المراهقين فكرياً من يتجه نحو تيارات وحركات فكرية تنويرية علمانية أو حتى الحادية معادية للأديان أو كل ما فيه إصلاح ديني ومنهم من يميل إلى الحركات الدينية للبحث فيها عن مسلك النجاة وربما قد نجد طرف ثالث وسط يتميز بطابع ديني تنويري لكن مقارنة مع الطرفين السابقين فهو حديث كما أنه نادر لأنه مسخوط عليه من الطرفين رغم أنه يتوسطهما ويتقاطعان عنده والمقام لا يتسع للغوص فيه أكثر.
الأكيد أن المراهق الفكري هذا أثناء البحث ينجذب أكثر للتيار الذي تأثر به، ويتشدد أكثر في أرائه التي تسرَّع طبعا في طرحها، فهو لا يبحث ويتحرى بميزان العقل والمنطق والتروِّي؛ إنما همه الوحيد أن يغيِّر من وضعه الفكري والثقافي وينقلب على السلطة السائدة، وهذا ما يدفع بالكثير منهم للاصطدام المباشر والعنيف أحيانا مع الشرائح الاجتماعية الأخرى؛ فالذين يتبنون التيار الديني يصبح المجتمع في نظرهم يعيش في انحلال وتميُّع غارق في الفساد فتجدهم يشتدون على الناس في نصحهم بغلظةٍ وفظاظة وقد لا يكون هذا عيبا في التيار الذي ينتمون إليه إنما العيب في أسلوبهم ومنهجهم في التعاطي مع المسائل والظواهر المتراكمة وذلك نتيجة للحالة النفسية والفكرية التي يعيشونها والتي يغلب عليها الانفعال.
مرحلة المراهقة الفكرية رغم أنها ضرورية في حياة الفرد إلا أنها خطيرة أيضا، فقد تنعكس سلباً على حياته في المراحل التي تَعْقِبُهَا ويعيش اضطرابا مستمرا، وربما قد لا يتخلص من هذه المراهقة. |
أما الذين يتبنون التيار أو الحركة التنويرية فينظرون للمجتمع على أنه لا يزال يعيش في رجعية وتخلف بحيث أنه منغلق على عاداته وتقاليده ومتمسك بالمعالم الدينية التي تمنعه من التحرر الفكري إذ إنهم يرون في التدين تخلفا وسلطة قهرية للإبداع والنهضة والتحضر، فالعلمانية والتي تصل لدرجة الإلحاد أحيانا هي غايتهم لقلب موازين القوى، أما التنويريين المتدينين فهم الثائرون على الانغلاق والتشدد الديني فيتميزون بنقدهم لكتب التراث وطرح شروح جديدة لبعض المسائل الدينية كما أنهم يجابهون الانحلال الفكري والثقافي الذي يدعو للتخلي عن كل ما هو ديني أو يرتبط بالدين.. رغم أن مرحلة المراهقة الفكرية تبدو معقدة ومضطربة بعد الشيء إلا أنها ضرورية فهي بداية النضج والتغيير ويمكن أن نصفها بالمخاض الذي ينتج عنه مولودا جديدا بعد مرحلة عسيرة.
أما المراهقة الفكرية في حياة الشعوب والأمم فهي ضرورة حضارية تدفع بعجلة النهضة والتغيير من أجل واقع أفضل وأرقى تعيش فيه الأمة انتعاشا حضاريا وتتميز مرحلة المراهقة الفكرية لدى الأمة أو الدولة بحراك شعبي ونخبوي يطالب بتحسين واقعه المعيشي، فلا يمكن أن يتغير وضعها وهي لا تحرك ساكناً، ولعلَّ أقرب ما يمكننا أن نشبهه بالمراهقة الفكرية في حياة الشعوب هي الثورة الفكرية التنويرية التي تزعمها مارثر لوثر في أوروبا وكذلك الثورة الفرنسية وكلاهما كان ضد نظام الكنيسة الإقطاعي المستبد وبعضها عاشت أوروبا مرحلة انتعاش حضارية انعكست في الثورة الصناعية وما تلاها من إنجازات حضارية أخرى.
ما يمكن أن نخلص إليه، أن مرحلة المراهقة الفكرية رغم أنها ضرورية في حياة الفرد إلا أنها خطيرة أيضا، فقد تنعكس سلباً على حياته في المراحل التي تَعْقِبُهَا ويعيش اضطرابا مستمرا، وربما قد لا يتخلص من هذه المراهقة وتتحول مع مرور الوقت إلى آفة، لذلك وجب التحكم فيها من طرف الأولياء ومراقبة أبنائهم باستمرار والحرص على توجيهم والأكثر من ذلك توفير لهم غطاء ثقافيا وفكريا صحيا مستنيرا يتماشى مع متطلبات العصر ويحافظ على سلامتهم الصحية والعقلية، وهذا كله يندرج ضمن تربية النشء تربية صالحة، والأكيد أنه إذا كانت المراهقة الفكرية ناجعة لدى الأفراد فستنعكس على المراهقة الفكرية المتعلقة بالشعوب فنجاح هذه الأخيرة مرتبط بنجاح الأولى.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.