شعار قسم مدونات

السجن للرجال

Men play the role of jailed Palestinians and Israeli soldiers during a rally in support of Palestinian prisoners on hunger strike in Israeli jails, in Gaza City April 17, 2017. REUTERS/Mohammed Salem
تسكنني مشاعر مختلطة متناقضة.. مشاعر مشبعة بالمطر والجفاف في آن واحد! غداً موعد الزيارة.. أشعر بالحنين كفيض من نور يغمرني.. أحلم بالزيارة كآلاف الأسرى.. تتساقط أوراق عمري على شبك الزيارة وأذوب شوقاً.. أنام وفي قلبي لهفة طفل ينتظر صباح العيد.. يضع ملابسه، حذاءه، تحت مخدته.. يحلم بعيد أكثر بهجة وأكثر حكايا.. أكوي ملابسي بوضعها تحت البطانية!
 

تأخذني خيالاتي بعيداً.. من الذي سُمح له بزيارتي؟ أهي أمي؟ أم زوجتي؟ أم ابني البكر؟
يا ترى كيف صار شكل الأولاد؟ طلع شوارب للكبير؟ والصغير هل اعتاد على المدرسة؟
يلاحقني مشهد أمي التي خرجت من الثالثة صباحاً.. تجري مسرعة لتلحق بحافلة الصليب الأحمر الدولي الذي داخت سبع دوخات إلى أن حصلت على موعد مسبق لحجز مقعد فيه.. تخرج من الثالثة فجراً حتى لاتفوتها الحافلة وتضطر لاستئجارسيارة على حسابها الشخصي الذي يفوق طاقتها على الاحتمال!
 

_ معْلِش يَمّا
هذه الدقائق المعدودة تعيد تشكيل زمني القادم.. كما تعيد الخيل تشكيل أبجدية النصر. هذه الزيارة يا حبيبة تجعل مزاجي كمزاج عصفور يلهو ويرفرف ويزقزق.. هذه الزيارة المحشوة برصيد لا ينضب من الأخبار تضمد النزف.. تفك الخيوط التي اختلطت.. تجعلني أسترسل في الضوء والزرقة!
 

هذا الدمع الغافي في محراب عينيك يطعنني "يما".. لم أقاوم إلا لأمسح دمعك ودموع كل الأمهات.. أريد أن أسمع منك زغرودة كتلك التي أطلقتها يوم أتى بي الجنود الصهاينة إلى البلد معصوب العينين.. مقيد اليدين!

ينادي الضابط على اسمي.. أركض باتجاه غرفة الزيارة.. أبحث عن جذوة نار تُشعل ظلمتي فإذا بها تجري وعكازتها أمامها.. تجري بلهفة سهم يخرج من قوس.. ترنو لي وأرنو لها.. فقد ضاقت الأرض بكلينا!
 

_ والله يمّا راجعة صبية!
تبتسم وتشرق عيناها الضيقتان ويلهج لسانها بالدعاء.
_ الله يرضى عليك يا ابن بطني.. رضا قلبي ورضا ربي.. احكي يمّا.. احكي
_ لكنني أريد أن أسمعك.. من تَخَرَّج؟ من تزوَّج؟ من أنجب؟ هل جلبت صور للأولاد معك؟ كيف دراستهم؟ مْغَلبينْأُمهم؟ احكي يمّا.. احكي..
 

تُدخل إصبعها الذي تلون بتجاعيد الفرقة عبر الشبك.. أُقبله.. يبدو أكثر جرأة وهيبة.. تقول:
_ ولا يهمك يمّا.. السجن للرجال.. إوْعَكْ تْكُون نَدْمان.. هذيِ الأرض بِدْها رجال زيّكْ يا حبيبي.
كم أتمنى في هذه اللحظة أن أقبل جبهتك وانحني تحت قدميك وأكسر هذه العكازة التي أراك تتكئين عليها لاول مرة!

هذا الدمع الغافي في محراب عينيك يطعنني.. لم أقاوم إلا لأمسح دمعك ودموع كل الأمهات..
أريد أن أسمع منك زغرودة كتلك التي أطلقتها يوم أتى بي الجنود الصهاينة إلى البلد معصوب العينين.. مقيد اليدين! زغرودة واحدة غسلت ظلمة ضعفي وانكساري.. انتصبتُ حينها كسيف خرج من غمده! زغردتِ فَشرد اليهود.. وكَبّر الأسرى!
 

أخرج من هواجسي بسرعة لألحق بما تبقى من النصف ساعة للزيارة.. نصف ساعة بعد ثلاث سنوات متواصلة من الحرمان! نصف ساعة تضيع منها عشر دقائق في تجفيف الكلمات المبللة بالدموع شوقاً.. في هذه الدقائق أعود طفلاً من جديد.. في صحبة أمي والأخبار.. تدخل الغيمات والسنونو والمطر والتراب والبحر والأحباب..! أحكي سريعاً وتحكي.. نسابق الزمن فيغدو أكثر رقة وأقل قسوة!

أعود من الزيارة كنورس.. يتحلق حولي الرفاق.. أُسرب لهم الأخبار.. أخبار العالم الخارجي.. الأولاد والجيران والإخوة والأخوات وأهل البلد. أنام على فراشي وفي أذني صوت أمي "السجن دوا مرّ بَسْ بِقَوَّي".

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.


إعلان