بعد ثلاثين عاما من حرب العصابات والقتال غير المتكافئ ضد العدو الأثيوبي الذي أخذ إرتريا عطيّة من المستعمر البريطاني بعد أن استعصى علي الإنجليز أمر استقلالها دون دماء، وبعد كل هذا الفداء والنضال والتضحية الذي خلّف أرتالا من الشهداء، أُغتيلت الحرية في مهدها.
أبشع السجون والمعتقلات في إريتريا إذ أنها في معظمها أقبية تحت الأرض، ولا تتوفر فيها أدنى مقومات الحياة |
لكن للأسف جفت ثمار الثورة ولَم يقطفها أحد، فالذين غدروا الثورة جففوا كل منابع الحرية وأسباب الحياة في إريتريا، واعتقلوا كل حر يرفض الظلم، ويقف ضد دكتاتورية العصابة الهمجية ، بدءا بالمناضلين ورفاق الثورة الذين رفضوا التنازل عن مبادئهم دفاعا عن مقدرات الشعب وحماية لحقوقه التي ناضلوا في سبيلها، ثم توالت حملات الاعتقال والاختطافات المفاجئة لتستهدف أساتذة المعاهد الدينية والمدارس الأكاديمية وغيرها، ومن بعدهم الطلاب والفنانين وزعماء المدن ووجهاءها، وأحرار الجيش والشرطة، واستمرت حملات الاعتقال والإخفاء القسري لتشمل النساء والأطفال وكبار السن من ذوي المعتقلين وغيرهم، وكل من يخالف رأيه أجندتهم أو إجراءاتهم القمعية، حتى فاقت أعداد المعتقلين العشرة آلاف.
ما أبشع السجون والمعتقلات في إريتريا إذ أنها في معظمها أقبية تحت الأرض، ولا تتوفر فيها أدنى مقومات الحياة، وهكذا أصبحت إريتريا سجنا كبيرا مغلق الحدود إلا من أفلت خلسة وعبر الحدود بسلام، إذ أنها في معظمها أقبية مظلمة يفوق عمقها ثمانية أمتار تحت الأرض، يقبع تحتها الشرفاء والأحرار من السياسيين والأدباء والمعلمين والقادة والوزراء، يقضون فيها السنوات العصيبة بالملابس الداخلية من شدة ارتفاع درجات الحرارة، وسجّانوها أشد غلظة وأكثر همجية، يعاملون مسجونيهم كالخونة والمارقين، وينكّلون بهم أشد تنكيل.
أبواق العصابة قد ضللت كثيرا من ضعاف النفوس، وبعضهم باع نفسه ودينه وكرامة شعبه في سبيل مصالحه الشخصية، ولم يغنم هؤلاء غير المزيد من الإذلال والاستعباد، فأصبحوا إمعات لا رأي لهم ولا قرار، إنما هم أدوات تحت أيدي الدكتاتور وأجهزة الاستبداد والطغيان، في كل يوم يقدمون التنازلات ويدعمون سياسة الرعب والتجهيل والتضليل خوفا من على أنفسهم وحرصا على حريتهم الشخصية التي يحددها الدكتاتور.
كل أولئك الذين يعيشون تحت الأرض، ويفتقدون أدنى درجات الحقوق والكرامة الإنسانية، ويعانون مرارات الخيبة وأهوال السجون، ما فعلوا ذلك إلا صدقا وإخلاصا للوطن، وتضحية من أجل حقوقنا وكرامتنا، وكل من سبقوهم من الرعيل الأول، فضلوا الصمود ومواجهة الواقع ولسان حالهم يقول: "من غيرنا يستعيد الحرية؟ وكيف نهرب أو نستسلم لهذه الخيانة؟ علينا أن نواجه مصيرنا، لا لن نهرب لأن التغيير لا يأتي إلا من الداخل، فإما أن نحقق مبادئنا أو نلحق بالشهداء والمعتقلين".
لقد كانت أهدافهم ومبادئهم أسمى وأنبل بكثير من أن يحيدوا عنها، وكانت عزيمتهم أقوى من آلة القمع التي واجهوها بكل شجاعة وعنفوان، كان همهم الوحيد هو استقلال إريتريا ووحدة ترابها وشعبها، وإرساء العدالة الاجتماعية، وبسط الحريات، وتنمية الوطن والمواطن، واللحاق بركب الأمم المتقدمة، وبذلك صعدوا إلى أعلى درجات الوفاء والكرامة والعزة، ومن واجبنا أن نكون أكثر وفاءً لهم في مطالبتنا بحريتهم، وأن نقف صفا واحدا، ونتحدى كل المعوقات والعقبات، ونتكاتف سويا ليجتمع هذا الشتات، وتندمل كل الجروح، وتنكسر كل القيود، لنعانق حلم الحرية.
أغلى ما أملك يا قلبي مهرا لعيون الحرية
لبلادي في درب الأحرار تدكّ جدار الفاشية
ما عاد كفاحك يا وطني صفحات نضال مطويّة
أبطالك في ساحات البذل عواصف نار رعديّة
فارفع راياتك يا شعبي في المرتفعات الصخرية
الشاعر الإرتري/ محمد عثمان كجراي
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.