شعار قسم مدونات

العاطلون عن الحياة

blogs - شباب أبيض وأسود كئيب
في الانحدار الذي لا قرار له، يتدحرج الكثير من بني هذه الأمّة، دون توقفٍ، أو تأفف، أو خط خطةٍ أخرى علَّها تجعل لذلك الانحدار قراراً، أعذارٌ متتالية يقذفونها في وجهك إذا ما قلت لهم؛ انهضوا من غباركم، استيقظوا من رقدتكم، استفيقوا من غيبوبتكم، ستجد العذر جاهزاً، والحجاج موجهاً، مع علمهم قبل علم القاذفين عليهم؛ ركاكة أعذارهم؛ وخفة قولهم وتهافت هممهم، وكساحة أدمغتهم، بعد أن عملوا فيها عوامل التهبيط والتثبيط، فتلاشت، ثم قتلت في رؤوسهم، حتى خفَّ الرأس، وثقُل الجسد، فكان الكُساح ماثلاً في الاثنين؛ الرأس والجسد معاً.

أجسادٌ كالبغال، وأحلامٌ كأحلام العصافير، بتعبير حسان بن ثابت، لم يلهبوا في أرواحهم الخامدة نار الطموح، أو بذل الجهد لاستلاب المكانة التي تليق بالإنسان من حيث هو كإنسان، لقد اشتد بهم اللهث لصغائر الأمور، واعتجنت بهم المفاخر في سفاسفها، فعاش أولهم من أجل توفير لقمة حامضة لإقامة الأود، وسد الرمق، وعاش ثانيهم لأجل سيارةٍ فارهةٍ كي يعربد بها أمام الآخرين، وعاش ثالثٌ لأجل بناء بيتٍ يضاهي بيت فلان، مع تزويق الجدران بالفسيفساء كيما يكون أزكى، تلك أقاصي حياتهم، وأمادي مبتغياتهم، وآخر الشوط في أبصارهم.

أولئك الساقطون في رذائل الهمم، العاطلون عن الحياة، تشعر بالغربة إذا ما سمعت أحاديثهم اليابسة، وأفكارهم الثاوية، لا تقدر على فك طلاسم أفهامهم، ولا يمكن أن تفهم مباعد رؤاهم، أو مخانز وعيهم، كذلك الطود القويم إذا ما تصدع، تقف على حطامه ويدك على لحيتك تبتغي الفهم، لماذا آل هذا الطود للسقوط، رغم متانة بنيانه، وصلابة حديده، وعظمة بانيه، مالم يُبدِّل تلكم المتانة والصلابة باللدانة والرخاوة، أو يُبدَّل له في غفلةٍ عنه، أو تحت بصره، إلا أنه استحب النعيق مع السرب، والنهيق مع الصبر.

المناضل العظيم، عبد القادر الجزائري، دوّخ ثاني أكبر امبراطورية في العالم، وكان ابن خمسة وعشرين سنة، أما غالبية شبابنا فدوّختهم أعطاف هيفاء، وتسديدات كرستيانو رونالدو.

إن أكبر عذر هؤلاء وهم لا شك كثر، عدم وجود الوقت، أو عدم الرغبة في اقتحام عقبة المعرفة، أو عدم الاهتمام بهكذا نوافل لا تجبر فرض اهتمامهم، وبدورنا نتساءل وبحرقة، من ذا الذي وقَّت للمعرفة، وضيّق وقتها؟، ولماذا هو ضيقٌ أصلاً؟ وليس ذا منادح واسعة، مقارنةً بأوقات اللهو واللعب والتفاخر الذي تستنزفون فيه أعماركم، وتغتالون به أوقاتكم، ما المعيار، ومن المُعيّر؟، وما الأُسُس التي قام عليها ذلكم اللجاج الذي تحشون به قناعاتكم المريضة.

إن القراءة واقتحاف المعرفة، أمورٌ من المفترض أن يكُنّ رأس الرغبة وقلب الاهتمام، كما لو أنهن خُلِقن بذاتهن في ناصية المرء، إذ أنهن بمثابة المسبار في شتى أمور حياتنا، وليس أمر من أمور الترف أو التزلف على بساط المعالي، فمن منا لا يحتاج لعقله، ومن منا لا يحتاج لقلبه، ومن منا لا يحتاج للسانه ومن منا لا يعلم أن لكل أولئك غذاء، ولا مناص؛ مالم يقوم بهن، أو يقمن هن بالاستقالة عن الركب.

كيف لشخص "كآينشتاين"؛ لم يتم الخامسة والعشرين من عمره، أن يضج بنظريته روح الفيزياء، ويجعل في أعماق ذلكم العلم شرخاً، لا يزال صداه إلى يومنا هذا، أو كيف لذلكم الإيطالي " إنريكو فيرمي" أن يقوم بتصميم المفاعل النووي، في سن الخامسة والعشرين، لم يُقل عنهم صغار، بحاجة إلى مساحة " للتفحيط" لتفجير طاقاتهم، كما أنهم لم يروا أنفسهم سوى عمالقة، أرادوا فحققوا، وغرسوا فأثمروا، كذلك الحال مع الروائي الكبير "فيكتور هوجو " فقد كتب بعض الروايات والملاحم وهو ابن خمس عشرة سنة، إلا أنه حين ناهز العشرين حصد أعظم جوائز الأكاديمية الفرنسية،. أقول من أسفٍ؛ لو كان عربياً، لقال له رعاع الثقافة الغالبة، لماذا تكتب، وما عساك تغير أيها الأحمق الصغير!

المناضل العظيم، عبد القادر الجزائري، دوّخ ثاني أكبر امبراطورية في العالم، وكان ابن خمسة وعشرين سنة، أما غالبية شبابنا فدوّختهم أعطاف هيفاء، وتسديدات "كرستيانو رونالدو"، فلا تجد لهم من مناطٍ يُقدّر، ولا معالم ناجزة فتُشكر، غيبوبة جماعية، وضحالة مفزعة. محمد الفاتح، دق أبوب القسطنطينية ولم يبلغ العشرين بعد، تلك الحصينة التي أعجزت أكابر القواد وأعيتهم، كذا أسامة بن زيد، الصحابي الجليل، يقود جيش جراراً، في أصعب محنة وأشد جحمة، ولم يبلغ العشرين، والكثير الكثير من العظماء والنبلاء الذين تخطو النير وكسروا جسور التقليد.

الفرق بين العبقري وغير العبقري، أن الأول اختلق الفرصة، بينما الثاني لم يستغل الفرصة أصلاً؛ فضلًا عن أن يختلقها إذا لم تسنح له>

تلكم الأحاديث نوردها كيما لا يكون للصغار عذر، فماذا عن الكبار، أولئك الذين اجترّوا المآسي والمبررات كلما فاهت شفاههم، معللين كذباً، ومعولين على أبنائهم هرباً من أكاذيبهم، فهذا "بنجامين فرانكلين" أحد الآباء المؤسسين، كتب سيرة حياته وهو في اثنين وثمانين سنة، وهذا عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي "شتراوس" شرع يدرس الإنجليزية وهو في الستين من عمره، كذلك الفيزيائي الكبير "جيمس وات" تعلم اللغة الألمانية وهو في السابعة والثمانيين!

أما علماؤنا، فنذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، الشيخ خالد الأزهري، وله مقدمة مشهورة في علم النحو، والإمام القفّال، أحد علماء الشافعية، وسلطان العلماء العز بن عبد السلام، كما حكى عنه ابن السبكي في طبقات الشافعية، وكذلك الإمام الكسائي، الحجة البالغة في النحو والقراءات، وغيرهم الكثير، لم يتحججوا بتقدم أعمارهم، ولا بمشاغل الحياة ومشاغبها، بل آمنوا بالأهداف التي رسموها وعاركوا في سبيلها، حتى وصلوا المنى، ونالوا الرضى، وربطوا أواصر الدنيا بالأخرى، فكانت ذكراهم حاضرة، ومعالمهم ظافرة.

العبقري فيمن ذكرنا، لن يكون حجة للمتعثّر، فالفرق بين العبقري وغير العبقري، أن الأول اختلق الفرصة، بينما الثاني لم يستغل الفرصة أصلاً؛ فضلًا عن أن يختلقها إذا لم تسنح له، ولنطرح السؤال التالي ولنتخيل سويةً، إذا ما دنى سيف الموت منك، وأنت في السبعين أو الثلاثين أو الأربعين، أو ما بين ذلك مما زاد أو نقص، هل ستكون راضياً عن مسار حياتك..؟! ليكن هذا السؤال باعثاً على الخروج من كنف العبث الذي أرهقك، وأماتك على غير رضىً منك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.