شعار قسم مدونات

حين تصغر الذكرى أمام الفاجعة

blogs - كما حدث في خان شيخون
مرصعة ذاكرتنا بالأحداث والصور التي تؤرخ لمجازر وممارسات الاحتلال ضد شعبنا منذ مطلع النكبة حتى اليوم، ففي كل عام نبدأ برصد مفكراتنا اليومية، لنحيي ذكرياتنا الموجعة الظاهرة في صفحات قلوبنا وسجادات أرواحنا وخبايا نفوسنا، حيث الطريق معبد بالشهداء.
 
كان التعاطي مع الذكرى سابقًا مرورًا بالانتفاضة الأولى وحتى قبل أوسلو يأخذ شكل التصعيد الميداني التلقائي دون حاجة للكثير من الخطب والتحليلات والكتابات، كان الشبان يُوَقِّعون على صفحة الذكرى بدمائهم وعنفوان خطواتهم التي كانت تربك المحتل الذي أقام كيانه على قاعدة الأمن الذي أصابه التخريب رغم كل سياسات الترميم.

تحضرني هذه المقدمة وأنا أحاول مقاربة الذكرى لأي حدث يمر علينا اليوم بوهج قيمتها وتأثيرها سابقًا، لأن الذاكرة الجمعية للشعوب لا تسقط الأحداث من حساباتها مهما صغرت أو تعلقت بأماكن محدودة أو أفراد قلوا أو كثروا.

لا شك أن الاحتلال الإسرائيلي يفرح بذلك، وقد استفاد من هذا ليبرر لنفسه التدمير والقتل الذي مارسه في حربه على شعبنا في غزة سنة 2014، وكأني به سيكون أكثر إطلاقًا لآلة القتل والتدمير.

لا شك أن الحديث هنا سيكون شائكًا، لذا فإني سأحرص على عدم انزياح النص عن الفكرة التي أردتها ما استطعت لذلك سبيلًا.. بداية لا بد من التأكيد على سادية وإجرام هذا الاحتلال الذي يمارس طغيانه على كل شيء منذ مطلع النكبة حتى اليوم، مستهدفًا الإنسان والمكان والتاريخ والتراث وكل شيء، ومن البديهي أن نذكر هنا أن الدولة القُطرية الحديثة التي أوجدها المستعمر في بلادنا بمواصفاته، كانت تهدف ابتداء لضمان السيطرة على بلادنا وقطع الطريق على فكرة التحرر التي بدأت تواجه الاستعمار مطلع القرن الماضي وما بعد، وهذا يأخذنا إلى طريقة اختيار اللبنة الأولى لبناء هذه الكيانات التي دخلت مع المستعمر في علاقة تبعية تمتد بين السر والعلن لتجعل منها أسوأ من فترة الاستعمار بعد عقود طويلة من الاستبداد والتوحش والتخريب والتجريف التي مارستها على شعوبها، حتى بدأت مرحلة الثورات التي كانت نتيجة طبيعية لكل ما سبق.

كان تعامل تلك الأنظمة مع ثورات شعوبها بكل هذه القسوة والإجرام قد حسم المسألة بأن هذه الكيانات قد استقر في وجدانها أنها تملك الأرض والشعوب والثروات وحتى الهواء، مما جعلها تتعامل بكل هذه الوحشية والبربرية غير المسبوقة، ربما، في التاريخ الحديث مع شعوبها التي طالبت ببعض حقوقها بشكل سلمي.

أصبحنا نحصي عدد المجازر بدل إحصاء أعداد الشهداء، وبتنا نرى ما لم يخطر على قلب أحد من البشر، حيث الحرق والتدمير والتخريب وتسوية المدن على رؤوس أهلها، ثم استخدام الأسلحة المحرمة كالنابالم والفسفور الأبيض، ثم استخدام الأسلحة الكيماوية والغازات السامة منذ 2013 وحتى خان شيخون، وكل هذا يُصب فوق رؤوس المدنيين بلا رحمة ولا حتى غضب من هذا العالم وكياناته المختلفة عدا الضربة الأميركية الأخيرة على مطارالشعيرات العسكري، والتي لها سياقاتها التي لم تتضح بعد.

تقف على أرضية الخيبة التي أراد المستبدون أن يغرقوك في مستنقعها، وأنت تغالب نزف جرحك الذي أحدثوه في خاصرة وعيك، لتعيد ترتيب نفسك كي لا يتسلل لداخلك ما يفرق بين الاحتلال والاستبداد.

هنا لا مكان للمقاربة أبدًا، فحجم الإجرام الذي نراه اليوم في مجازر الأسد في سوريا، على سبيل المثال، لم يترك لنا مجالًا لنوظف ذكرى مجازر الاحتلال ضدنا في شحذ الهمم وتجديد روح المقاومة ووسم هذا الاحتلال بالإجرام، رغم ندب الحزن والجراح المشرعة الممتدة في قلوبنا وعلى ظاهر أرواحنا،
ولكي أعطي مثالًا واقعيًا، تصادف الذكرى مجزرة نحالين سنة 1989 التي راح ضحيتها خمسة شهداء وأكثر من مائة جريح.

لم أستطع أن أسهب في الحديث عن هولها وأثرها، الذي كنا نستحضره كل عام، وأنا أجلس مع أبنائي قرب التلفاز نستمع لمحاولات إحصاء أعداد المجازر المروعة في سوريا بعد مجزرة خان شيخون ومشاهدها التي تزلزل الكون، كان البون شاسعًا بين مدلول الكلمة في ذاكرتنا وبينه اليوم، لا شك أن الاحتلال الإسرائيلي يفرح بذلك، وقد استفاد من هذا ليبرر لنفسه التدمير والقتل الذي مارسه في حربه على شعبنا في غزة سنة 2014، وكأني به سيكون أكثر إطلاقًا لآلة القتل والتدمير في أي حرب قادمة، ولن يردعه سوى توازن الرعب الذي ستحدثه المقاومة.

هنا تقف على أرضية الخيبة التي أراد المستبدون أن يغرقوك في مستنقعها، وأنت تغالب نزف جرحك الذي أحدثوه في خاصرة وعيك، لتعيد ترتيب نفسك كي لا يتسلل لداخلك ما يفرق بين الاحتلال والاستبداد، لتزداد قناعة أن هذه الكيانات الاستبدادية إنما أقيمت لتحرس مصالح الاستعمار وملحقاته، فهي كيانات استعمارية احتلالية لا يصلح مع كثير منها الإصلاح، وأن الاستعمار والاحتلال ما زالا يحرسان هذه الكيانات. ويفجران الثورات من الداخل مستخدمين دولًا وكياناتٍ وأحزابًا أنشأوها لهذا الغرض ولا عاصم من ذلك إلا أن تستمر في خطاك الثائرة على أرضية إيمانك الواعي وإعدادك المتعاظم، مستحضرًا دروس الماضي وتجارب الحاضر ومستشرفًا الصبح الذي يقترب ليخرج من نزف الجراح المُشْرَعة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.