الأساطيل الصينية جابت المحيط على مر العصور طلبا للجزية من الممالك الصغيرة المجاورة، إلا أن أكثر الحملات تنظيما وتأثيرا كانت تلك التي قادها أدميرال حقبة المينغ الصيني المسلم جنغ خه. |
ولعل في خروج أغوس ابن الأغلبية الجاوية أمام مرشحين من أقليتين عرقيتين أخريين إشارة واضحة لتسامح المجتمع الأندونيسي وقبوله لسمة التنوع العرقي والثقافي والديني التي اتسمت بها البلاد على مر العصور. كيف لا وشعار الدولة الرسمي هو بيت الشعر الجاوي القديم "بهينيكا تونغال ايكا" أي "متحدون رغم التنوع"!
مرشح صيني وآخر عربي
كان أبرز المرشحين لمحافظة جاكرتا محافظها الحالي باسوكي تشاهايا بورناما المعروف بأهوك والمدعوم من حزب الرئيس جوكوي؛ حزب النضال الديمقراطي الأندونيسي ذي الميول اليسارية. ووصل أهوك، الذي كان نائبا للمحافظ عام 2014، لكرسي المحافظة إثر فوز المحافظ -حينها- جوكوي بانتخابات الرئاسة الأندونيسية.
أما المرشح الثاني أنيس باسويدان فهو حفيد السياسي والمناضل الأندونيسي الحضرمي الشهير عبد الرحمن باسويدان الذي وصل أجداده إلى أندونيسيا قبل استقلالها بحوالي قرن من الزمان. وكان الدكتور أنيس، وهو أكاديمي بارز ترأس جامعة بارامادينا في جاكرتا عقدا من الزمان، وزيرا للتربية والتعليم في حكومة جوكوي الأولى في الفترة 2014-2016م.
الصينيون الأندونيسيون
يمثل كل من المرشحين مجموعة عرقية مهمة اندمجت في المجتمع الأندونيسي الواسع وأثرت في سياسة البلاد واقتصادها ولا تزال. فعلى أحد الأطراف يمثل الأندونيسيون المنحدرون من أصول صينية واحدة من أهم أقليات البلاد خصوصا في قطاع الاقتصاد. ورغم كون معظم شعوب الأرخبيل ينحدرون من أصول أسترونيزية لأقوام هاجروا من الصين إلى تايوان ثم إلى جنوب شرق آسيا قبل ما يزهو على عشرة آلاف سنة، إلا أن هذه الشعوب قد اختلطت بغيرها من ذوي الأصول الميلانيزية وتمايزت عن سكان الصين الحاليين شكلا وثقافة ولغة، مما يجعل الأقلية الصينية الحالية مجموعة متمايزة عن باقي المجموعات حيث تعود جذورها إلى هجرات حديثة نسبيا تواصلت عبر القرون الخمسة الأخيرة.
من جميل ما يحفظه التاريخ رسالة من ملك مملكة "سري ويجايا" الملايوية البوذية إلى أمير المؤمنين الأموي عمر بن عبد العزيز في مطلع القرن الثامن الميلادي يطلب إليه أن يرسل من يعلم أهل سري ويجايا الإسلام. |
مع أن الأساطيل الصينية جابت المحيط على مر العصور طلبا للجزية من الممالك الصغيرة المجاورة، إلا أن أكثر الحملات تنظيما وتأثيرا كانت تلك التي قادها أدميرال حقبة المينغ الصيني المسلم جنغ خه (كان بعض السابقين يخطئون بتسميته "تشنغ هو") مطلع القرن الخامس عشر. وزار جنغ خه جزر الأرخبيل المختلفة أثناء حملاته السبع الشهيرة، فبنى علاقات ديبلوماسية مهمة للصين مع ممالك المنطقة، وجلب معه بعض المهاجرين. ورغم توقف الحملات البحرية الصينية في الحقبات التالية إلا أن الهجرات الفردية والجماعية لم تتوقف. ولم تمنع أحداث مروعة مثل مذبحة الصينيين في جاكرتا عام 1740م من عودة أجيال جديدة من المهاجرين الصينيين إلى البلاد.
وعلى مدى قرون متتالية تنامى نفوذ تلك الجماعات المهاجرة، فأصبح معظم أثرياء أندونيسيا حاليا من أبناء هذه الأقلية، كما برز منها سياسيون وزعماء وطنيون مؤثرون ليس آخرهم محافظ جاكرتا الأخير أهوك. ويبلغ تعداد صينيي أندونيسيا حاليا قرابة الثلاثة ملايين، يقطن معظمهم المناطق الحضرية في البلاد.
العرب الأندونيسيون
وعلى الجهة الأخرى يمثل عرب أندونيسيا أقلية أخرى مهمة من أقليات البلاد، حيث يفوق تعدادهم خمسة ملايين مواطن يملكون من النفوذ السياسي والاقتصادي والثقافي والديني ما يفوق عددهم بكثير.
ويمثل عرب أندونيسيا امتدادا لموجات هجرة متتابعة إلى الأرخبيل امتدت على مدى قرون. ويشير بعض المؤرخين إلى بدء هذه الهجرات منذ القرن الخامس الميلادي طلبا للبهارات والتوابل التي ظلت مصدرا لاستقطاب الأساطيل الأجنبية عبر آلاف السنين. ومنذ ظهور الإسلام ساهم الدعاة المسلمون العرب جنبا إلى جنب مع الدعاة الهنود والصينيين في نشر الإسلام في أنحاء الأرخبيل، ليصبح خلال القرون الخمسة الأخيرة دين غالبية السكان.
ومن جميل ما يحفظه التاريخ رسالة من ملك مملكة "سري ويجايا" الملايوية البوذية إلى أمير المؤمنين الأموي عمر بن عبد العزيز في مطلع القرن الثامن الميلادي يطلب إليه أن يرسل من يعلم أهل سري ويجايا الإسلام. ولم يمنع كون سري ويجايا آنذاك محجا لآلاف الرهبان البوذيين من أن تستقبل وفود القادمين المسلمين بصدر رحب لينضموا إلى الكثير من الجاليات الأخرى الزائرة.
يكفي المرء استطلاعا بسيطا لقاموس اللغة الأندونيسية ليكتشف الأثر العربي الواضح، متمثلا بآلاف الكلمات والمصطلحات العربية التي أضحت جزءا أصيلا من اللغة الأندونيسية العريقة. |
أما الهجرات الحديثة نسبيا والتي استقرت في الأرخبيل وانحدر منها عرب أندونيسيا الحاليون فقد جاء معظمها من حضرموت، حيث انتشر التجار والعلماء والسائحون في انحاء الأرخبيل طوعا وكرها، فمنهم من جاء سعيا لنشر العلم والدين، ومنهم من وصل طلبا للتجارة والرزق، ومنهم من طرده الاستعمار من بلاده فاضطر للقدوم إلى هذه البلاد.
وكما لمع نجم باسويدان مؤخرا فقد برز عبر السنين الكثير من السياسيين الأندونيسيين العرب الذين تركوا أثرا بالغا في مسيرة البلاد قبل الاستقلال وبعده. فقبل الاستقلال بقرون أقام الحضارمة ممالك إسلامية مهمة كسلطنة "بونتي أنأ" (Pontianak) جنوب جزيرة كاليمانتان. أما بعد الاستقلال فلا تكاد تخلو حكومة أندونيسية من وزير حضرمي. ففي العقود الأخيرة مثلا بزغت أنجم وزيري الخارجية علي العطاس 1988-1999 وعلوي شهاب 1999-2001، كما برز مؤخرا وزير الشؤون الاجتماعية سالم الجفري 2009-2014، ثم أخيرا أنيس باسويدان.
ولا يقتصر النفوذ الحضرمي على السياسة، فزعيم الحراك الإسلامي الشعبي في جاكرتا حضرمي أيضا؛ وهو الحبيب رزق شهاب زعيم جبهة الدفاع الإسلامي. وبعض الجماعات الصوفية الكبرى كجماعة الخيرات، ذات الخمسة ملايين عضو والنشطة شرقي البلاد، أسسها ويقودها علماء حضارم من آل الجفري. كل هذه الشواهد غيض من فيض آثار هذه الأقلية المهمة، ويكفي المرء استطلاعا بسيطا لقاموس اللغة الأندونيسية ليكتشف الأثر العربي الواضح، متمثلا بآلاف الكلمات والمصطلحات العربية التي أضحت جزءا أصيلا من اللغة الأندونيسية العريقة.
لم تقتصر أهمية انتخابات جاكرتا على بعدها السياسي، بل زخرت بالمعاني والدلالات التاريخية والاجتماعية. ولعل مشهد تنافس حفيد مهاجرين عرب مع حفيد مهاجرين صينيين على قيادة كبرى عواصم جنوب شرق آسيا يكون بارقة أمل لملايين اللاجئين الذين ساحوا في مناكب الأرض في أكبر موجة هجرة يشهدها تاريخنا المعاصر.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.