شعار قسم مدونات

فلسفة الموت

مدونات، موت

كخيوط العنكبوت أنسج في الذاكرة بيوتاً للنسيان ولكن ما أوهننها أمام رياح الحنين، فعند رحيلك يا أبي أدركت بأن جميع الأحزان بعدك ترف، وفي رزنامة الفقد اليوم كشهر والشهر كالسنة فيمر الوقت بطيئاً كئيباً بدونك، وتستيقظ جميع الذكريات والأشواق الخامدة، وفي مرحلة ما من الصدمة ندخل في دوامة من الاستيعاب فنستصعب من فرط الحزن والحب تقبل فكرة الرحيل الأبدي للأحباب، ثم يمسح الرحمن على قلوبنا فتستحيل الرغبة في الــ "عودة" الأحبة إلى "دعوة" صادقة.

الفقدان هو حشرجة في الصدر مٌكتظـة بالحنين والأنين وتَكون الشوق في داخل الأحشاء كالجنين وتجمد الدمع فـي أحداق العيون ورسائل مكتوبة بحبر السنين مجهولة العنوان، الفقدان شعور يسلبك الإحساس بالأمان يشعرك بأنك منفي في عالم الأحزان باحثاُ في وسط الذكريات عن سراب النسيان.

في خضم الحياة، لا شيء يهذب أرواحنا وينقيها من الشوائب العالقة بنا، ولا شيء يضائل حجم مشاكلنا ولا شيء يجعلنا نراجع حساباتنا ونتسامح أكثر مع من اختلفنا معهم

فتنمني النفس بالآمال لعلها تجد عزاءها بالصبر والسلوان، فمهما بلغت من النضج فأنك ستقف أمام الرحيل كطفل صغير يتشبث بثوب أحبته لكي يثنيهم عن الرحيل، وحينما يرحلون ستغدو كافة تفاصليهم جميله، وبقدر حبات الرمال سيشتعل الرأس شيباً ندماً على كل الكلمات التي لم نقلها فور رحيلهم فكيف لكلمة مكونة من حرفين بأن تأجج في داخل أفئدتنا بركاناً "لو" يعود الزمن إلى الوراء "لو" أدركنا أنه اللقاء الأخير لعانقناهم لنطيل عمر الوصال ولكي تعلق بنا رائحتهم دهراً.

فأي فراغ يُخلفه غيابهم في القلب والعقل والذاكرة؟ وكيف نوهم أنفسنا بأننا سننسى فنحن لا ننسى بل نتناسى لكي لا ندفن في مقابر الحزن، فما زلت أقول في سري أبي لم يمت، بل رحل إلى جوار ربه وذهب إلى من هو أرحم به منا ومن سبقت رحمته عذابه، متصالحة أنا مع فكرة غيابك يا أبي لأنني ما زلت أشعر بوجودك، ولأنك فرط كرمك وكمال طيبتك لم تتركننا بعد رحيلك لينهشنا الغياب، بل تركت لنا فيضاً من سيرتك العطرة، وقبساً من نورك ليضيء لنا الدرب وليشار إلينا بالبنان فأفتخر بزهو حينها بانني ابنة ذلك الرجل.

وفي خضم الحياة، لا شيء يهذب أرواحنا وينقيها من الشوائب العالقة بنا، ولا شيء يضائل حجم مشاكلنا ولا شيء يجعلنا نراجع حساباتنا ونتسامح أكثر مع من اختلفنا معهم، ويجعلنا أقزاماً أمام أنفسنا ويعرينا ويمرغ أنفنا في التراب ويجعلنا ندرك حقيقة أصلنا ومآلنا ، كالموت ،فموت الأحبة هو الوجع الممتد من الوريد إلى الوريد والذي تغذو بحضرته كل الأشياء عابره، فالطموح جل الطموح هو أن تبلغ آمالك وعزائمك عنان السماء، والفلاح هو أن تدرك بأنه مهما عظم شأنـك بأن مصيرك هو الفنــاء فالحياة هي مرآة عاكسة للموت، والموت هو المحطة التي ترغمك على أن تتزود بالطاعات عبر محطات الحياة العابرة قبل أن تغادرها مرغماً، لذلك عبروا عن صدق مشاعركم لمن تحبون فالعمر أقصر من أن نقضيه بالكتمان وقبل أن تذوقوا مرارة الفقدان، وختاماً أسأل من الله العلي القدير بأن يرحم أمواتنا وأموات المسلمين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.