دخل جايسن المدرسة في عمر سنتين وتسعة أشهر وكانت مدرسة بريطانية رائدة متخصصة باضطراب التوحد، وكان هو من أصغر الأطفال سناً الذين تمّ قبولهم وقتها فيها. لا شك أن حظ جايسن كان رائعاً ولكن ما سهّل استقباله في هذه المدرسة هو قدرته على القراءة منذ سن الثمانية عشرة شهراً، وهذه قصة ملهمة سأرويها لاحقاً.
في صيف تلك السنة المدرسية الأولى وكنا في شهر تمّوز، اخترت قضاء العطلة وحيدة في أوروبا بدل لبنان، وفي ذلك الصيف بدأت التصرفات العدائية تظهر على جايسن، كان أمراً شديد الغرابة بالنسبة لي، هذا الملاك الباسم الجميل الذي لا يكف عن الضحك لأي سبب تحوّل فجأة إلى آلة للعضّ والقرص الموجع، وكنت أنا هدفه الأول وشبه الوحيد. لقد آذاني مراراً من دون قصد قبلاً عندما كان يحرّك يده فجأة ليمسك شيئاً وأنا قربه فيضرب وجهي بشدّة وقد ينزف أنفي أو شفتيّ أحياناً، ولكنها كانت ردّات فعل عفوية لأنه غير قادر على السيطرة على حركة عضلاته حينها، إنما تحوّله للقرص والعضّ المقصود كان فوق طاقتي.
كان الوقت عصراً في ذلك النهار المشؤوم… كان يوماً انكليزياً حاراً استثنائيا وكان جايسن يلاحقني في المنزل ليعضّني وما إن أحمله لأبعده عني يقرصني بشدّة، يا إلهي كنت أحمل بين يديّ عدوا شرساً وطرياً كالورد وكان الموقف يغرقني في سوداوية عظيمة. أمضى جايسن عشرة أيام متواصلة يستهدفني بشكل مركز، وجربت معه كل شيء: داعبته وكلمته بهدوء عما فعله، أقصيته ووضعته في غرفته لعدة دقائق بعد كل هجوم، ارتديت ملابس تغطي جسدي وربطت شعري لأفهم ما الذي يستفزه ولكن كل ذلك لم يكن ذا فائدة.
إن مريض التوحد لا يجيد قراءة تعابير وجه من حوله، فلا يفهم تعابير الإنزعاج أو الفرح أو القرف، وبالتالي عندما كان يعضني أو يقرصني كنت أصرخ أو انتفض وكان ردّ فعلي هذا مسلياً له أو محفزاً ومثيراً فيعود لتكراره |
في ذلك اليوم، وصلتُ إلى أقصى طاقتي على الاحتمال ولم أوفق بالكلام مع المشرفة السلوكية المسؤولة عنه، دخلت الحمام وأغلقت الباب خلفي ونظرت في المرآة… كانت شفتي متورمة وتحت عيني خدش بشع ووجهي أصفر وشعيرات بيضاء رقيقة تلوح في مفرق شعري، كنت أرتجف وأبكي ممكسة بالمغسلة، جسدي يؤلمني، نفَسي يضيق والحيطان من حولي تطبق وتدور.. فجأة قفزتُ من مكاني ألماً، كان جايسن قد تسلل إلى الحمام ممسكاً بفخذي يعضه ولا يرخي! ما زلت لا أعي كيف استدرت وصفعته على وجهه بكل ما أوتيت من قوة، أفلتَ فخذي ووقع أرضاً في الحمّام الضيق… وقفت أبحلق فيه وقد أصابني شلل في أطرافي لثواني بدت كأنها ساعات قبل أن أسقط أرضاً جنبه أضمّه وأنشج بصوت عالي منتحب… لم يبكِ جايسن ولم يضحك ولن أنسى ما حييت التعبير الذي غطى وجهه، كان علامة استفهام بريئة بحجم صدمته ووجعي ووحدتنا في هذا الحمام الضيّق الذي يشبه حياتنا نحن الإثنين آنذاك.
بعد هذه الحادثة توقف جايسن عن أذيتي فجأة، كأن كل ذلك كان فيلماً سينمائياً مزعجاً انتهى وأضيئت أنوار الصالة. فهمت فيما بعد عندما بحثت مع المشرفة السلوكية الحادثة أن مريض التوحد لا يجيد قراءة تعابير وجه من حوله، فلا يفهم تعابير الإنزعاج أو الفرح أو القرف، وبالتالي عندما كان يعضني أو يقرصني كنت أصرخ أو انتفض وكان ردّ فعلي هذا مسلياً له أو محفزاً ومثيراً فيعود لتكرار نفس التصرف ليحصل على نفس رد الفعل المسلّي، كان يحاول التواصل معي واللعب معي على طريقته. نصيحة الخبيرة لي كانت كالتالي: عندما يعتدي عليكِ حافظي على تعابير وجهك جامدة وانزلي إلى مستواه وارفعي يدك أمام صدرك بإشارة التوقف وقولي له: لا! ثم كرري ذلك حتى يهدأ.
لم أرفع يدي يوماً لأضرب أحداً وأول ما رفعتها انهالت على وحيدي بلا وعي… حتى العناكب أحملها في قصعة وأرميها خارجاً ولا أضربها ولكني ضربت جايسن. أمسح دموعي الآن وأذكّر نفسي أن كل هذا ماضي مضى، وأن جايسن اليوم شاب صغير يدلل والدته ويقول لها إنها جميلة ثم يشيح بوجهه عنها خجلاً.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.