شعار قسم مدونات

في مديح الحب (2)

blogs الحب

عن الحبّ مع آلان باديو؛

 2. الحبّ والفلسفة

يبدو بمعنًى معيّن بأنّ الحبّ لم يكن موضوعًا أثيرًا للتفلسف، إذ قلّما اشتغل عليه اشتغالًا مكرّسًا له. وحتى آلان، حين تذكر من موقعه الحبّ، وجد نفسه مضطّرًا للاستعانة بأدباء وشعراء، كي يقترب من هذا الكائن عديم الشكل والتاريخ، ملاحظًا أنّ الفلاسفة فشلوا على نحو منكر في هذا النحو.

 

يشير آلان إلى كتاب (الحبّ والفلسفة، الحبّ من سقراط إلى سيمون دي بوفوار)؛ بوصفه الدرس الفلسفيّ الأكثر تشويقًا ومهنيّة في الحبّ، حيث يتضمن فحصًا متعدد الجوانب، ممتعًا، بعيدًا عن الابتذال والشعبويّة في تناول سير فلاسفة وتجاربهم العاطفية المبتورة والمتناقضة ذاتيًّا، من منظور تفلسفهم في الحبّ. ولقد أظهر هشاشة وتعقّد العلاقة بين الحبّ والفلسفة، فكرة وتجربة، وكيف ناست الفلسفة بين تصورين متطرفين عن الحبّ، رغم توفّر تصوّرات بين ذلك. على طرفٍ يقف خصوم الحبّ، وكبيرهم أرثور شوبنهاور، والذي نظر للحبّ بوصفه تعبيرًا متعاليًا عن رغبات وغرائز بدائيّة وبسيطة، من المنظور التطوريّ، مثل إرادة الحياة والتكاثر، ولأنّه تشاؤميّ أساسًا، وذو نزعة عدميّة مريضة، ويرى في استمرار الحياة استمرار ما لا قيمة له، اشمئزّ من الحبّ، وزعم بأنّه لن يسامح الأنثى التي جلبت معها عاطفة الحبّ، لمكيجة عمليّة التناسل والاستمرار للجنس البشريّ، وهذا كما يرى مدعاة للأسف.

 

المرحلة الأخلاقيّة في الحياة، والتي تمثل نقاهة من متلازمة تعب من المرحلة الأولى، حيث تنسحب النفس إلى باطنها، مغادرة عالم الحواس، عاملة على تزكية نفسها مما لحق بها. وإنّ الحبّ فيها حبّ حقيقيّ، يسعى للكمال والمطلق

على الطرف الآخر، الذين قدّموا الحبّ بوصفه ترقيًّا في خبرة النفس البشريّة، وكبيرهم كيركجارد، المتديّن الكوبنهاغنيّ، اكتئابيّ المزاج، والذي يرى في عمله الأشهر "إمّا- أو"، بأنّ للحياة ثلاث مراحل أو مدارج تمرّ بها أو تسلكها النفس لبلوغ الكمال الدينيّ:

 

 ففي الأولى وهي المرحلة الحسيّة فُهم الحبّ مقصورًا على إغواء الغرور، وبأنّه تكرار مسرف، وأنانية اللذة، وأنانيّة هذه الانانيّة؛ حيث تمثل هذه المحرك الوحيد للنفس. فالحبّ هنا إيروتيكيّ حسيّ معزول، عابر، مبتذل ومزيّف، لا يؤسس سيرة وجوديّة، ولا يُحدث حقيقة.  إنّه ينشد مواقف غراميّة مثلًا ولكنه يعجز متنصلًا من القرار ومن الواجب عن تأسيس الزواج/الحبّ الحقيقيّ. وتبدو النفس هنا مرهقة تلفانة بتكرار تجارب حسيّة مزيفة، تسر المقلة تضر المهجة، ويتحول بعض منها إلى فضائح. ومثاله النمطيّ دون خوان، زير النساء الذي يعظ باستخراج المتعة واللذة من كلّ لحظة وحالة، واستنزاف الوقت نبيذًا ونساءً، والذي أغوى ألف امرأة.

 

المرحلة الثانية، وهي المرحلة الأخلاقيّة، والتي تمثل نقاهة من متلازمة تعب من المرحلة الأولى، حيث تنسحب النفس إلى باطنها، مغادرة عالم الحواس، عاملة على تزكية نفسها مما لحق بها. وإنّ الحبّ فيها حبّ حقيقيّ، يسعى للكمال والمطلق، عبر الاختيار، والذي هو معيارُ الأخلاقيّ الواصم؛ أن تختار أن تحبّ، وأن ترتبط برابطة أبديّة، تدشن الزواج الذي يدوم بالتزام حتى آخر يوم في العمر.

 

المرحلة الأخيرة، هي المرحلة الإيمانيّة، والتي يرى كيركجارد بأنّها لا تتحقق باستقراء أو استنباط عقليّ، أو منهج تاريخيّ أو فلسفيّ، بل عن طريق قفزة، أو خطوة لو أردت أن استعير من السادّة المتصوّفة. وذلك أنّ الإيمان عنده حقيقة ذاتيّة تتحقق بالوثوب إلى المجهول، أو قلّ إلى الغيب، ولا يصير إلى حقيقة كليّة عامة، يمكن اثباتها والبرهنة عليها بالعلوم والمنطق. وفي هذا السياق يمثل الإيمان التحرر من الخطيئة التي جبل عليها الآدميّ، والخشوع بين يديّ الله والتضرع إليه، فإنّه الله هو من يزكي من يشاء. وأمّا الكائن الأخلاقيّ فلا يهتم بالخطيئة الأصليّة، النزوع للنسيان الأصليّ لو سمحت لنفسي بالتدخل هنا، عهد لآدم فنسي وفقد العزم، وبالتالي النزوع للخطيئة، كلّ ابن آدم خطاء؛ وإنّما تعتني (الأخلاق) باعتباط وتخريص قيم ومعايير لما هو شر وخير، لما هو حسن وقبيح، وما هو صواب وخطأ، متسّق وزائغ؛ لا بما هو خطيئة بالمعنى المذكور. وإنّ النفس تتعب من هذه القيم والمعايير التي يُتنازع عليها، والتي تنتهك كلّ لحظة وفي كلّ حالة، ويتم لوكها بالتأويل ودعسها بالقوة. تتعب لأنّها لا تجد مهربًا بعدُ في هذه الحياة الدنيا، فتنطوي على نفسها منبثقة على وجود آخر، برزخ العبور، إلى حبّ له حقيقة آخِرة وحلوة.  ويبدو واضحًا بأنّ الحبّ في هذا المعنى يصفو لله وحده. وهو دليل الإيمان الذي محلّه القلب، لا العقل ومجاله. ولقد سبق لمثل هذا ابن عربي (560هـ/1165م – 638هـ/1240م).

 

هكذا تبدو الفلسفة مرتبكة ومضطربة، مزاجيّة، في نظرتها للحبّ. بين ارتياب عقلانيّ حياله يحصره في كونه هوسًا طبيعيًّا في الجنس. وبين اعتذار عنه دينيّ أو رهبانيّ المرجعيّة.

 

يرى آلان، مع ذلك، إلى أنّ المنظور إفلاطون للحبّ دقيق إلى حدّ ما، إذ ذهب إلى إنّ في نازع الحبّ يكمن برعم الكونيّ. وفي تجربة الحبّ سعيٌ إلى شيء ما، يسميه فكرةً، ويعتبره المدخل والعبور إلى الجمال والحقّ. فعندما أتمعن في مشهد جميل، وسواء أكنت أريد امتلاكه أم لا، فإنّي على طريق فكرة الجمال. يعارض آلان هذا المفهوم، حين يرى في الحبّ مانحَ إمكانيّة العبور من مُفرد الصدفة إلى عنصر يحتوي قيمةً كونيّة. يقول: من صدفة اللقاء يتعلم المرء أن يعيش الحياة انطلاقا من الاختلاف الأصليّ، الآخذ بالانسجام بفعل هذا السحر المؤسّس، وليس من انكفاء الهويّة وبحث الذات عن العالم في ذاتها. ففي عالمِ هذه الحقبة، ثمة قناعة واسعة الانتشار بأنّ كلًّا يتبع شهواته. وهنا يجب أن يبرز أو يعاد اكتشاف الحبّ ليثبت العكس. إنّ الحبّ يزج بالاثنين في تجربة أساسيّة لاختبار ما هو الاختلاف وما هو مختلف، وبشكل ما، لتصور كيف يمكننا العيش في عالم لا يزال الاختلاف فيه هو الأصل، ولا يزال الناس فيه مختلفين خلقة. من هذا الوجه، يرى آلان، بأنّ الحبّ ذو أفقٍ كونيّ، وهو تجربة شخصيّة لولوج كونيّة ممكنة، يجعلها الحبّ منظورة على الأقل. وفي هذا يكون الحبّ فلسفيًّا ذا اعتبار، كما حدس به أفلاطون.

 

ليس الحبّ هو العلاقة الحميمة، إذن، وليس الحبّ مالئ خواء الجنسانيّة، الحبّ هو صياغة وجود الاثنين من جديد، ليجعل لكلّ أنماط المعاملات والعلاقات الطبيعيّة والتعاقديّة سياقًا مميّزًا محترمًا آدميًّا

يتعامل آلان بحذر ورهافة مع إشكالية الحبّ كقناع للعلاقة الجنسيّة، وعن تصورات متناقضة تتراوح بين الحبّ العذريّ، وكونه هو وحده الحبّ، المنزه عن كدر الجنسانيّة، وبين تضمين الجنسانيّة في الحبّ أو العكس، في مشهد متواتر تعززه السينما بشكل رئيس. ويبتدئ آلان من فرضيّة جاك لاكان التي يعدّها مثيرة للاهتمام، حيث يرى لا كان بأنّه ليس ثمّة من "علاقة جنسيّة". وهذا ما يعتبر من منظور التحليل النفسيّ مدخلًا غريبًا لمقاربة المجال الجنسانيّ في العلاقات البشريّة، حيث يتحدث الجميع عن "علاقة جنسيّة". يتفق آلان مع لاكان في أنّ "العلاقة الجنسيّة" بحدّ ذاتها تمثّل تباعدًا أو انفصالًا في حقيقتها، حيث ينشد كلّ من الآخر قضاء وطره، في نرجسيّة وأنانيّة، ما يجعل ظاهرَ ما هو علاقة وتواصل يتواسطه الجسد بحواسّه انفصالًا، يثبت مرّة أخرى خواء الجنسانيّة من المحتوى. لاكان وفقًا لآلان، لا يقول بأنّه لا حبّ إلّا الحبّ العذريّ، وإنّما يقول، بأنّ العلاقة الجنسيّة دون حبّ، ذي محتوًى عذريّ إن سمحتُ لنفسي التدخل بينها، ليست علاقة أساسًا، وإنّما تعبر عن مراضة تصوّرنا لما هو "علاقة" و"اتصّال"، ولفراغ أنماط حياتنا من عواطف مشبوبة تتضائل فيها أدوار الحواس بشكل ملموس ومؤثّر. الحبّ هو محاولة الاثنين، كلّ من جانبه، للحلول في كينونة الآخر، متجاوزين نرجسيّتهما البدئيّة. وأمّا الجنسانيّة، فهو علاقة يسعى طرفيها بشكل منفصل لتلبيّة احتياجاتهما الحسيّة والنفسيّة، ولتلقيم النرجسيّة البدئيّة.

 

لكنّ آلان مدفوعًا بحذره سيطرح لفرضيّة لاكان، "لا علاقةً جنسيّةٌ"، تفسيرين اثنين، لينأى بنفسه عن أحدهما. الأوّل، ويصفه بأن التفسير التافه، يرى بأنّ لاكان يريد من الحبّ أنْ يملأ على نحو متخيّل خواء الجنسانيّة، حيث يرى آلان بأنّه لو صحّ ذلك، فإنّ الحبّ نفسه سينتهي لخواء مماثل. إذ يمكن تحرّي ذلك في أنماط علاقات وتصوّرات شائعة، بإلحاح وهوس في مجال الجنسانيّة، وضرورة الابتكار اليوميّ فيه، بحجة أو لغرض استدامة الحبّ وإيقاده. التفسير الثاني، يرى بأنّ لاكان يريد التفريق بين تلك الشهوة التي تنصرف إلى الحسيّ، بالجسد أو بجزء منه، والتي هي في حقيقتها فتشيّة جنسيّة بمعنًى ما. وبين البعد الانطولوجيّ للحبّ، إذِ الانصراف إلى كينونة الآخر كما هي، بكليّتها، والتي اقتحمت عليّ وجودي لصياغة وجود جديد، هو ليس محصّلة جمع الاثنين. ليس الحبّ هو العلاقة الحميمة، إذن، وليس الحبّ مالئ خواء الجنسانيّة، الحبّ هو صياغة وجود الاثنين من جديد، ليجعل لكلّ أنماط المعاملات والعلاقات الطبيعيّة والتعاقديّة سياقًا مميّزًا محترمًا آدميًّا، وطعمة هنيّة، ويجعل تحمل تكاليف الحياة ومشاكل العلاقات ممكنًا بأقل جهد نفسيّ. الحبّ ليس محتوى العلاقة الحميمة ولا قالبها. الحبّ هو هذا الانبثاق الجديد للوجود، الذي يستوعب كلّ ذلك.

 

يجمل آلان بالقول بأنّه ثمّة ثلاثة تصوّرات فلسفيّة للحبّ، متناقضة وقاصرة. الأولى، متوقّفة على نشوة اللقاء والواصل، رومانسيّة وحالمة، عذريّة بمعنى ما كما قد أفترض أنا. وإشكاليتها، أنّها تجعل الحبّ غير قابلًا للاستدامة والخلود، ولا للاستمرار كحقيقة جديدة متولّدة من رحم هذا الحدث، اللقاء. والتصور الثانيّ، ينظر للحبّ، كما لو أنّه نابع من عقليّة البورصة والضمان، فالحبّ هو مجرد كاتب للعقد الذي يحدد شروط التعايش المشترك، فيما يشبه وثيقة عيش مشترك. والثالث، يرى الحبّ وهمًا، أو زيفًا، أو قناعًا وماكياجًا يخفي غرائز ورغبات وشهوات وحاجات بدئيّة مثل التناسل وحفظ النوع والجنس، وأخرى اجتماعيّة سياسيّة كقوّة الأمة واسم العائلة، وما إلى ذلك.

 

في اللقاء يرى آلان مجرّد حدّث مؤسس، وليس استيعابًا ولا ضيافة، وهو حدّث يبقى بشكلّ كليّ غير مرئيّ ويجد حقيقته فقط في نتائجه المتنوعة في العالم الواقعيّ. وهو بذلك يرفض هذا المفهوم "القربانيّ" للحبّ

لكن الحبّ ليس ذلك مجتمعًا، ولا جزءًا منه بفهم معدّل. وإنّما هو تشكيل حقيقة، حقيقة ماذا؟ حقيقة كيف يبدو العالم من منظور ائتلاف المتخلف، وامتحان النرجسيّة والهويّة، في مشروع ولادة، لا يقتصر على تقديم طفولة جديدة للوجود، في عناق الروح والرغبة، وإنّما كذلك ولادة وجود جديد وحقيقة جديدة، يعيشها الزوج فيطلان، وهما يعيشان هذه التجربة بالروح والحواس لا واحد في اثنين ولا اثنين في واحد، بها على الكون.

 

في النهاية، يختلف آلان مع وجهة نظر إيمانويل ليفيناس، الذي يفهم الحبّ في نسقه كما لو أنّه "استيعاب الاختلاف" و"ضيافة الآخر". ويرى آلان، دعوني أقول، بأنّ هذا عبار عن فرط في تشخيص عقابيل وآثار التقليد الفلسفيّ الأنطولوجيّ الغربيّ الجانبيّة، والتي عُني ليفيناس بمعالجتها، ومنها التذرر والانانيّة والتمركز حول الذات، وبالتالي العنف الكامن ضد الآخر، الرمزيّ منه والماديّ، يعبر عنه ليفيناس ب "وجه الآخر العاري"، ومنها تحول الحبّ، كما قد أفهم، إلى مجرد تحقيق الأنا عبر الآخر -وهنا ثمّة اتفاق في التشخيص بين آلان وليفيناس-. من هنا يحاول ليفيناس إخضاع الذات لعمليّة تحول، عبر منظور فلسفيّ إيتيقيّ، تصبح فيه المسؤوليّة الأخلاقيّة تجاه الآخر مقدمة على أنطولوجيا الذات، التي يراها -يمكنني أن أبالغ- بمثابة جين أو طفرة مسرطنة، نشأت عنها كل كوارث عالمنا الحديث، من حروب واضطرابات وقلاقل، إلى أمراض نفسيّة واضطرابات شخصيّة. ومن هنا فإنّ فلسفة الحبّ عنده هي فرع على نسقه الإيتيقي-الدينيّ.
 

وهذا ما يختلف معه بقوّة آلان، رغم الاتفاق على تشخيص مراضة الحبّ بمعنى ما، وعلى العوامل والأليّات المسببة لذلك. ويقول، ببساطة وصراحة لا أحبّ هذا الاستغراق الثيولوجيّ في هذا السياق، رغم معرفتي بأنّه ذو تأثير تاريخيّ كبير. في اللقاء يرى آلان مجرّد حدّث مؤسس، وليس استيعابًا ولا ضيافة، وهو حدّث يبقى بشكلّ كليّ غير مرئيّ ويجد حقيقته فقط في نتائجه المتنوعة في العالم الواقعيّ. وهو بذلك يرفض هذا المفهوم "القربانيّ" للحبّ، والذي يستخدمه ليفيناس كدواء أو درياق كما تقدّم، حيث ينسى المرء نفسه تمامًا لصالح الآخر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.