شعار قسم مدونات

عن خان شيخون مجدداً

blogs خان شيخون

كانت عقارب الساعة تقترب من السادسة والنصف من فجر يوم الثلاثاء حيث الشوارع خالية إلا من بعض مصلين الفجر العائدين بصمت إلى بيوتهم، حين سمع أهالي "خان شيخون" صوت دوي انفجار أربع قذائف مدوية أفاقت أهل المدينة كموتى يخرجون من أجداثهم.. هرعوا إلى الشوارع، وإذ بالناس قرب أماكن القصف يمشون خطوتين أو ثلاثة ثم يبدأون يتمايلون كأنهم سكارى.. يتساقطون واحدا تلو الآخر أرضاً في مشهد مهول ومرعب.. وكأن القيامة قد قامت.

 

رجال يلتقطون أنفاساً متتابعة لعل ذلك يعيد لهم اتزانهم، فيزداد حالهم سوءاً.. يرتعشون ارتعاشات شديدة.. يسقطون أرضاً، تخرج رغوة بيضاء من أفواههم.. يلفظون أنفاسهم الأخيرة.. تتوقف قلوبهم عن النبض. ليس ببعيد عن ذلك المشهد أطفال لا يتجازون العاشرة قادهم الفضول إلى الاقتراب من مكان القصف فسقطوا من فورهم.. عيونهم جاحظة، ويتنفسون بجهد بالغ كأنهم يلتقطون أنفاسهم عبر فتحة كحجم فتحة المخيط أو أصغر، وتلونت شفاههم إلى أزرق باهت.. لا يبقون طويلاً على هذه الحالة.

 

الجو في المدينة فوضى، الكل يبحث عن الكل، وكل شخص يبحث عن أحبائه ليتطمن عليهم ويتمسك بهم فلعلها تكون اللحظات الأخيرة. الموت في لحظات كهذه يبدوا قريباً من الجميع، الكل يهرب منه، ويحاول أن يجر معه من استطاع من أحبابه.

 

أم ثكلى كانت قد فقدت أولادها جميعاً إلا واحداً منهم كان يعينها لمواجهة الحياة العصيبة لم تستطع ان تطمئن عليه إن كان لا زال على قيد الحياة.. هكذا مرت الساعات الاولى ثقيلة

رجل ثلاثيني قرر أن يتطوع مع فرق الدفاع المدني لإنقاذ من يمكن إنقاذه، يلبس الكمامة ويقترب من مكان الحدث يحمل شابين بمقتبل العمر إلى أقرب نقطة طبية ويعود مباشرة إلى مكان القصف ليلمح شخصاً ممداً فوق طفل، يسائل نفسه هل أقترب، لعلهم فارقوا الحياة.. يكمل طريقه لينقذ أطفالاً كانوا قد سقطوا بالقرب من مكان وقوفه.. يحملهم ويوصلهم إلى النقطة الطبية القريبة، ويحدث نفسه: ترى هل كان الرجل الذي لمحته ممداً فوق طفله فيه حياة! يهرول مسرعاً كأن كابوساً أفزعه، يصل إليهما.. يقترب.. ينوح بالبكاء.. أخوه الأصغر فارق الحياة وهو يحاول انقاذ طفله الذي لم يكمل الرابعة وليس بعيداً عنه زوجة أخيه ممدة وقد فارقت الحياة كذلك!…

 

شيخ كبير خرج إلى الشارع يصيح بأسماء أولاده لعل أحدهم يرد عليه ولكن لا جواب، وأم ثكلى كانت قد فقدت أولادها جميعاً إلا واحداً منهم كان يعينها لمواجهة الحياة العصيبة لم تستطع ان تطمئن عليه إن كان لا زال على قيد الحياة.. هكذا مرت الساعات الاولى ثقيلة وكأنها دهور وأيام.. الشوارع باتت ملأى بالجثث والمصابين على مد البصر والكل يرقب ولا يقوى على الاقتراب خوفاً من ان يتعثر بقريب له أو أخ أو أخت أو زوجة أو أطفال.. البعض الآخر هام كالمجنون يحسب الضحايا الذين سقطوا من عائلته بعد أن باتوا أرقاماً في خضم المجزرة الرهيبة.

 

بدأت فرق الدفاع المدني بحصر الجثث وترقيمها واحدة تلوا الأخرى ليتم التعرف على أصحابها وبدأ أهالي المدينة يقتربون ليتعرفوا على الجثث التي تخصهم، ومن بعيد جاء شاب يمسح أدمعه ويصيح: سمعت أن ضحايا الغازات السامة قد يعودون للحياة وتعود قلوبهم للنبض مرة أخرى خلال 48 ساعة، وواصل طريقه يكرر ذات المعلومة. ليس ببعيد كانت هناك أم قد تعرفت على طفلها من بين الضحايا، مسكت به لتأخذه إلى بيتها لعله يستفيق بعد هذه النومة الطويلة.

 

وعشرات أطفال ونساء وشيوخ في مكان المجزرة ماتوا وهم راقدون على أسرتهم، لتطول نومتهم حتى القيامة.. لم ينتهي ذلك اليوم إلا بعد أن فارقت عائلات كاملة الحياة، ومئات المصابين يعانون من آثار الغازات السامة التي تنففسوها، والكل يرقب المجزرة القادمة. في اليوم التالي استفاق العالم على شجب وتنديد وإشارة بأصابع الاتهام للقاتل الذي لم يلبث أن يعيد الكرة في كل مرة!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.