شعار قسم مدونات

لا تقارنوا بين نساء البارحة واليوم

blogs- الجدة
العيش على الأطلال! التغني بالماضي البعيد، رؤية مزاياه دون عيوبه، وتمجيد بساطته والتغاضي عن نواقصه، مدحُ القديم وذم الجديد، رفض تطور الحاضر والعودة دوماً إلى أزقّة الماضي، لكل حقبة زمنية روعتها، جمالها وسحرها، فكراهية زمن معين بشكل كاملٍ سيئة، ومحبة مدة زمنية بصورة مبالغ فيها غير جيدة، وما نعتقد أننا نكرهه في حاضرنا، لربما لو غاب عنا وتلاشى قد يجن جنوننا لفقدانه، إفراغ الجيب من ترسبات الماضي عملٌ مهم، والمضي قدماً ومواكبة الحداثة شيءٌ لا بُد منه.

ما أكثر الأقاويل والمقالات والأبيات الشعرية التي تتغنى بنساء الزمن الماضي وتعيب نساء زمننا الحالي، مقارنات لا تنتهي، ضجرٌ من تقدم النساء اليوم تكنولوجياً كأنها مطالبات جماهيرية بضرورة عودتهن لحقبة جداتهنَّ المثالية! فهناك من يقول يرحم أيامك يا جدتي كيف كنتِ تغسلين الثياب على يديكِ بكل حرفية، وما ذنب امرأة اليوم أن أصبح لدى الأسواق غسالة أوتاميتكية ستخفف عن كاهلها بعضاً من مهامها اليومية؟!.


تختلف الأزمنة والأيام والسنوات، ما يصلح في الماضي قد لا ينفعنا اليوم، التأقلم مع كل جيلٍ كما هو فن من الفنون، فجدتي التي كانت في الماضي لا تعرف الهاتف هي الآن تحمل هاتفاً ذكياً وسعيدة به جداً!

وآخر يقول جدتي كانت تنتف ريش الدجاج في منزلها وتطبخه من الألف إلى الياء، فما الخطأ في جلب امرأة اليوم دجاجاً نظيفاً مقطعّاً صحياً من (المول) لترتاح من ذاك العناء؟! وجدتي كانت تخرج باكراً لتحضر الماء من النبع في جرّة، أما امرأة الحاضر تأتيها المياه النقية في قوارير لامعة بطريقةٍ مُيسرّة، وجدتي تطبخ على الحطب، أما اليوم فتطبخ المرأة على غازٍ إيطالي قوي اللهب.

وجدتي كانت بالقماش تغطّي عورة رضيعها، تغيرّها عندما تتسخ وتغسلها لتعاود استخدامها، أما اليوم فالبامبرز كفيلٌ باختصار تلك الخطوات كلها، وجدتي كانت تحلب البقرة وتسقينا الحليب الطازج في كؤوس فخارية، أما اليوم فنيدو ومراعي اكتسح بيوتنا العربية، فما ذنبنا أنَّ جداتنا عانيْن في الماضي كثيراً؟ لماذا يجب أن يكون تضامننا معهم كبيراً؟ أنترك كل وسائل التكنولوجيا وتسهيلاتها وما وفرته لنا من خدمات، لنظهر أمام الملأ أننا مثال النساء المناضلات المكافحات وأننا مع جداتنا متعاطفات.

تختلف الأزمنة والأيام والسنوات، ما يصلح في الماضي قد لا ينفعنا اليوم، التأقلم مع كل جيلٍ كما هو فن من الفنون، فجدتي التي كانت في الماضي لا تعرف الهاتف هي الآن تحمل هاتفاً ذكياً وسعيدة به جداً! وجدتي التي كان تأكل مع أولادها خبزاً يابساً هي الآن تسخنه في المايكروويف بكل سهولة! وجدتي التي كانت تتنقل بين الشوارع سيراً على الأقدام هي الآن جالسة داخل سيارة مريحة وآمنة لتختصر الوقت والمسافات.

جدتي التي كانت تتناول الزيت والزعتر والزيتون الأسود والاخضر، هي الآن تروق لها سندويشة البيرغر والسباغيتي بالكريمة ووجبة شاورما عربي! فالتعامل مع تطورات هذا العصر المتسارعة على أنها أداة ساهمت في كسل النساء وقلة حركتهن أمرٌ خاطئ للغاية ولا منطق فيه ولا موضوعية، فامرأة اليوم عاملة بحاجةٍ لكل ما يسهّل عليها مسؤولياتها، وهي مغتربة بحاجة للهواتف الذكية وتطبيقاتها الغنية كالسكايب والماسنجر للتواصل مع عائلتها بالصوت والصورة.


لا يجب أن ننسى أن الإنسان بطبعه يتأقلم مع ظروف معيشته، أمثال شعب الاسكيمو تكيفوا مع الطقس المتجمد الصقيعي ولا يروْن فيه شيئاً غريباً، وهكذا نحن النساء الآن انسجمنا مع كل التطورات الرهيبة ووجدن فيها ملاذاً من أكوام مسؤولياتنا التي أرهقتنا وأهدرت من صحتنا الكثير.

وإن كانت هذه المقارنات لا مهرب منها ولا مفر، فلماذا لا نبدأ ايضاً بمقارنة رجال البارحة ورجال اليوم! أعتقد أننا لو فكرنا في الخوض بهذا الأمر ستطول القصة وسنكتشف بعدها أن المقارنة مضيعة للوقت ما من داعٍ لها ولا فائدة.


عندما أجلس مع جدتي وأسألها عن أيامها الماضية أرى في سردها لوقائع الحياة القديمة شقاءً وتعباً شديداً، وأحمد الله كثيراً أننا لم نعش تلك الحياة الصعبة المليئة بالتحديات، فكرة التطور الذي نشهده الآن تخلق من المرأة كائناً مختلفاً، واختصار معظم المهام القديمة بآليات ضخمة ومميزة حالياً يغيّر من طريقة التكيّف للنساء ليصبحن تابعات لهذا النمط التكنولوجي العبقري.


لا يجب أن ننسى أن الإنسان بطبعه يتأقلم مع ظروف معيشته، أمثال شعب الاسكيمو تكيفوا مع الطقس المتجمد الصقيعي ولا يروْن فيه شيئاً غريباً، وهكذا نحن النساء الآن انسجمنا مع كل التطورات الرهيبة ووجدن فيها ملاذاً من أكوام مسؤولياتنا التي أرهقتنا وأهدرت من صحتنا الكثير، العمل لا ينتهي، والعمر ينقضي سريعاً، فدعونا نستمتع بالحاضر كما هو، ننظر لنصف الكأس الممتلئ ونغض الطرف عن النصف الفارغ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.