شعار قسم مدونات

75 عاماً في البحث عن السعادة

blogs - happy

الغاية التي يسعى وراءها أيّ إنسان منذ وعيه للعالم هو أن يكون سعيداً؛ نعم السعادة هي الغاية القصوى التي نكافح من أجلها ونخوض كل الصعاب في رحلة شاقة للبحث عنها، نتوسَّل كل ما يمكننا لِتَمَلُّكهَا والظَّفر بها، ونظراً لأهمية السعادة في حياتنا بل تكاد تكون جوهرها الأساس عندما نَضيع في البحث عنها نتساءل: ما هي السعادة؟ وهل هي موجودة فعلاً وممكنة؟ 

قد يسارع بعضهم مجيبًا عن هذه التساؤلات؛ نعم السعادة ممكنة وتتمثل في راحة البال، لكن ألا يعلمون أن راحة البال هي تحصيل حاصل؛ يعني نتيجة تقررها سعادة المرء وليست وسيلة، بينما يعتقد البعض الآخر أن الكسب والسعي إلي الرزق والمكانة الاجتماعية والوظيفة الحسنة وغيرها من المغريات ومسالك الثراء، لكن الواقع لا يعكس ذلك حيث نجد أن الكثيرين تتوفر فيهم هذه الشروط ويعيشون حياة ملؤها التعاسة، كما أن غيرهم لا يتمتعوا بها ويعيشون مستوى من السعادة، هذا لا يعني أن الثراء سبب تعاسة الإنسان وأن الفقر والحرمان هو محور السعادة. حتى نجيب عن الأسئلة التي طرحناها، ونزيل هذا اللبس الذي تعرضنا له حول موضوع السعادة سنسلط الضوء على أشهر دراسة علمية متخصصة وعميقة في هذا المجال.


دراسة "هارفارد" لتطور حياة البالغين:
أجرى مركز دراسات نمو البالغين التابع لجامعة هارفارد الأمريكية والذي يترأسه البروفسور "روبرت والدينجر" عالم النفس الشهير دراسة بحثية عميقة تعتبر الأطول في تاريخ العلوم الإنسانية والاجتماعية والأشهر دامت 75 سنة أشرف عليها مجموعة من الباحثين 268 طالب من جامعة هارفارد، انطلقت هذه الدراسة سنة 1938م شملت 724 رجلا تمَّ تقسيمهم إلى مجموعتين مختلفتين اجتماعياً ومادياً المجموعة الأولى تنتمي إلى طبقة الأغنياء ويدرسون بجامعة هارفارد والثانية من طبقة الفقراء ينتمون إلى أفقر أحياء بوسطن ولا تتوفر لهم أبسط متطلبات الحياة، يتتبع المشرفون على هذه الدراسة كل تفاصيل حياة هؤلاء الشباب حيث أجروا معهم عشرات المحادثات حول سيرهم الذاتية وطموحاتهم وتطلعاتهم ومعاناتهم، ويسمح لهم بالاطلاع على سجلاتهم الطبية وزيارتهم في مقر سكناهم والتحدث مع أطفالهم وتسجيل حواراتهم مع زوجاتهم كما أنهم قاموا أيضاُ بفحص دمائهم وبمسح أدمغتهم بالأشعة؛ يعني مراقبة حياة بأكملها أثناء تشكلها مع مرور الوقت دراسة هؤلاء الأشخاص من سن المراهقة حتى سن الشيخوخة إذا كان يبقى الناس سعداء وفي صحة جيدة، وهذا ما صرَّح به البروفسور "روبرت" في إحدى محاضراته بالمسرح الشهير TED حول هذه الدراسة فشرح تفاصيل هذه الرحلة البحثية والنتائج المتوصل إليها من خلالها. 
 

تبين أن السعادة تكمن في العلاقات الإنسانية الاجتماعية المتميِّزة مع العائلة والأصدقاء والمحيط الذي نعيش فيه وأن الوحدة تسبب الكآبة أو كما يقال الوحدة قاتلة

نُشرت نتائج هذه الدراسة سنة 2012 في كتاب الدكتور "جورج فيلان" الذي ينتمي إلى نفس الجامعة والذي قاد فريق البحث من عام 1972 إلى عام2004، لكن قبل معرفة نتيجة البحث لابد من أن نتعرَّف على انطباع الأشخاص المختارين حول السعادة في البداية 80 بالمائة منهم أعرب عن رغبته الشديدة في الثراء أن يكون من الأغنياء يتمتع بمستوى معيشي واجتماعي راقي و50 بالمائة من الشباب أبدوا عن حبهم وتطلعهم للشهرة.

النتائج التي توصل إليها فريق البحث ليس كل الانطباعات التي ذكرناها سابقاً ولا حتى المال أو الصحة الجيدة أو الوظيفة، بعد كتابة آلاف من الصفحات تبين أن السعادة تكمن في العلاقات الإنسانية الاجتماعية المتميِّزة مع العائلة والأصدقاء والمحيط الذي نعيش فيه وأن الوحدة تسبب الكآبة أو كما يقال الوحدة قاتلة، كما أكدوا أن السعادة ليست بكثرة العلاقات إنما بنوع العلاقة تتميز بأن تكون وثيقة ومتينة خالية من الصراعات والمشاكل وأن يكون الشخص هو المبادر دائما في خدمة الآخرين وصاحب عطاء، فالدروس المستفادة من هذه النتيجة أن السعداء أصحاب العلاقة المميزة يتمتعون بصحة جيدة وفي حالة مرضهم وتألمهم يتمتعون بمزاج أحسن حالا من أولئك الذين يعيشون في وحدة أو علاقات تعيسة لأن إحساسهم بالألم الجسدي تضاعف بسبب مشاكلهم النفسية والتي سببت لهم أمراض عضوية أخرى، كما أن العلاقات الجيدة حسب الدراسة تحافظ على قوة الذاكرة وتحمي العقل أيضاً حيث أن الأشخاص الذين كانوا يعيشون علاقات جيدة مع الأشخاص المحيطين بهم وهم في سن الخمسين بقيت حالتهم الصحية وذاكرتهم أفضل عندما بلغوا سن الثمانين.

كما أن هناك خمسة أسباب أخرى ذكرها رئيس المركز تسهم في إسعاد المرء وهي: العمل من أجل هدف أي أن يكون لك هدف تعمل وتعيش لأجله، التفكير الإيجابي وهو الشعور بالرضا بما تملكه وتسعى لتطوير مستواك، العطاء ومساعدة الآخرين حيث أن الأشخاص الذين يتميزون بهذه الصفة يعيشون سعادة أكثر من غيرهم، الحرية بحيث أنها تعد المساحة التي تتوفر فيها مقومات الاختيار الشخصية، الصحة الجيدة والتي تعتبر أيضاً أحد مؤشرات السعادة إلا أنها ليس لها دور فعال في زيادتها.
 

السعادة ليست شأن شخصي؛ بل هي مسألة عامة بين الناس بفعل التكامل والتكافل الاجتماعي، فالعلاقات الاجتماعية الوثيقة هى أحد أهم عوامل سعادة الإنسان

يشار إلى أن 724 رجل الذين شملتهم الدراسة لا زال منهم 60 رجلا على قيد الحياة وتجاوزت أعمارهم الـ 90 عاماً، كما أن الدراسة تعاقب عليها أجيال من الباحثين ففي حالة توفي أحدهم يتسلم باحث آخر مكانه وهذه الدراسة لا زالت قائمة لحد الآن وقد تشمل أولاد وأحفاد الأشخاص المعنيين بالدراسة وهذا حسب "روبرت والدينجر" الذي يترأس فريق البحث.

ما يمكن أن نستنتجه من هذه الدراسة أن السعادة ليست شأن شخصي؛ بل هي مسألة عامة بين الناس بفعل التكامل والتكافل الاجتماعي، فالعلاقات الاجتماعية الوثيقة التي أفادت بها الدراسة كأحد أهم عوامل سعادة الإنسان نجدها في بعض معاني آيات القرآن الكريم وبعض الأحاديث النبوية الشريفة التي تحث على ضرورة التماسك والتعاون بين أفراد الأسرة والمجتمع الواحد وبين الناس كافة إذ يقول الله تعالى: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَاب " المائدة: الآية 2، وقال أيضاَ "يَا أيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنٰكُمْ مِّنْ ذَكَرٍ وَّأُنْثٰى وَجَعَلْنٰكُمْ شُعُوْبًا وَّقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوْا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقٰكُمْ" الحجرات: آية 13، بالإضافة إلى أن للزواج نصيبه من هذه العلاقات بحيث أن نجاح وتميُّز العلاقة الزوجية ينعكس إيجاباً على الأسرة والمجتمع بل يعتبر حجر الأساس في بنائهما فيقول الله تعالى: "وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً" الروم: الآية 21، كما أن رسولنا الكريم يحثنا ويدعونا على أن نكون ملتحمين ومتماسكين فيما بيننا إذ يقول عليه أفضل الصلاة والتسليم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" متفق عليه، ويقول أيضاً: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدُّ بعضه بعضاً" رواه البخاري ومسلم.

في رحلة البحث عن السعادة يكابد بعضهم المتاعب والمشاق بينما يستمتع آخر بالرحلة، فالفرق بينهما يتوقف على منهج كل واحد منهما في سلك الطريق وطبيعة تعامله مع ظروف الحياة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.