شعار قسم مدونات

من القاهرة.. هنا دمشق

blogs - نازحون من سوريا
كجيل كامل يحيا الآن.. مصرية الهوية، عربية الهوى، جيل نشأ على قضية واحدة ، فلسطين، ومن غيرها يهفو إليها الفؤاد! كنّا صِغَارًا ننام على قصف هناك ونستيقظ على ردِ فعلٍ انتفاضي. كم امتلأت بيوتنا بصور للأقصى، وحرٌ أنت رغم القيود، بطلنا لم يكن "سوبر مان" بل كان طفلًا يستقبل عربةً مصفحةً مدججة بالجند والعتاد بحجرٍ صغير في يده! أطفال الحجارة كما عُرفوا، الحجارة… كأنهم اختاروا أن يدافعوا عن أرضهم بأرضهم. تكاتفت فلسطين مع أهلها لتدفع عنها العدوان. وهل يمكننا أن ننسى محمد الدرة!

ثم كبرنا وكبرت معنا أحلامنا وقضيتنا، وصرنا ذلك الحبل الأخير الذي يصل بين فلسطين والعروبة. الجيل الأخير الذي عاش قضيتها حتى امتزجت بدمه كما امتزجت بوجدانه. كبرنا وتعددت القضايا، لم تعد فلسطين وحدها الآن، وكأننا أشفقنا بوحدتها فانضمت إليها من تؤنسها، العراق تارة، لبنان حينا، ثم سورية.. لم تعد فلسطين النموذج الأوحد، صرنا جميعًا نماذج تتشابه وتتقارب حتى مللناهم. كبرنا، وتبعنا جيلٌ آخر، جيل نشأ وسط القضايا حتى ألفها، بل صار يعتقد أن تلك هي العادة وما الضير! فلسطين! وماذا تعني فلسطين! ماذا تعني سوريا! ماذا تعني الحرية!

نحن كضفدع ماتت لديه مستقبلات الإحساس تدريجيا، ضفدعٍ يمر بمرحلة من مراحل الموت البطيء في اليوم ألف مرةٍ بل يزيد.

هذا العام البائد، السادس عشر بعد الألفين، تبنينا جميعًا قضية سوريا، صغيرنا وكبيرنا، تعددت أخبارها، تأثرنا حينًا بعمران، حينًا بحرائقها، اتخذنا زوجين ملآ الجدران بكلماتهم رمزًا للحب المقاوم لكل شيء. وغيرها من الصور المروعة التي طاردتنا في أحلامنا حينًا ثم خفت ضوؤها شيئا فشيئا ثم تلاشت ونسيناها. وعادت ريما لعادتها واستمرت الحياة. وهكذا دواليك، ننتفض حينا ونخبو أحيانًا. لماذا؟ لأننا ألفنا الألم والصرخات، ألفنا الحزن والوجع وصادقنا الموت في رحلاته.

واليوم نستيقظ على مجزرة خان شيخون وضحايا الأسلحة الكيماوية وشهداء جدد يضافون إليّ سورية. سنثور ونغضب ونبكي ثم يهدأ روعنا ونكمل ما كنّا نفعله قبل إلقاء القذائف..

هل قرأت يومًا عن نظرية الضفدع المغلى؟ حين تضع ضفدعًا في ماء مغلى فإنه بالضرورة سيقفز خارجها، ولكنك إذا وضعته في ماء بارد ثم رفعت درجة حرارة الماء تدريجيًّا لن يقفز، حتى إذا وصلت إلى درجة الغليان! هكذا نحن كضفدع ماتت لديه مستقبلات الإحساس تدريجيا، كضفدعٍ يمر بمرحلة من مراحل الموت البطيء في اليوم ألف مرةٍ بل يزيد.

هل متنا حقًّا، أم أن إنسانيتنا هي من ماتت فقط. هل أصبح القتل حقًا مشروعًا للجميع؟ ذلك العالم الذي يقتل ويسلب ويظلم ويجور هل هو نتاج الانتخاب الطبيعي؟! أمضى داروين حياته ليصل في النهاية إلى أن "البقاء للأقوي والأصلح". سواءً اتفقنا معه في نظريته أو اختلفنا، لا أظن أن القوة والصلاح تشملان الأكثرأسحلةً فالأسد فتكًا بخصمه!

هنا القاهرة من دمشق! يومًا ما كنا أحياء، كنا أُمَّةً واحدة وإن تعددت حدودنا وأسماؤنا، تصرخ امرأة في السوق مستنجدة ليُغيثها المعتصم بجيشه..

لم تكن تلك اختيارات الطبيعة أبدًا، فكيف نرضى بذلك، وكيف هناك من يبرر تلك المجازر.. لا أستطيع أن أتخيل روحًا بشرية تتقبل كل هذا السوء الذي طغى على العالم بل وتبرر وجوده… الكتابة عن سوريا ومثيلاتها من دول أُبديت وتُباد – كهذا الهراء الذي أكتبه – التنديد ببشاعة العالم أصبح مبتذلًا حقًّا لكثرته ولغياب أثره. مَثلُه كمثل من يكتب بالحبر على سطح الماء، ماذا تراه فعل! ولكن هل نملك سوى كلمات تضيق بها صدورنا لا تلبث حتى تُحرّر؟

الآن، تذكرت ذلك الخبر الذي قرأته يومًا في الشرق الأوسط ونصه: الجمعة 2 نوفمبر/ تشرين الثاني سنة 1956، صدر عن القوات المصرية البلاغ رقم 14 وجاء فيه: «في الساعة الحادية عشرة ونصف صباحاً حدثت غارة جوية على قرية مصرية في أبي زعبل وكذلك على أجهزة إرسال محطة الإذاعة المصرية ما سبّب عطلاً فيها وبعض الخسائر الأخرى التي لم تحدد بعد».. حيث قامت الطائرات الفرنسية والبريطانية بتوجيه ضربات جوية على الأهداف المصرية طوال يومي 2 و3 نوفمبر، ونجحت إحدى الغارات في تدمير هوائيات الإرسال الرئيسية للإذاعة المصرية في منطقة صحراء أبي زعبل شمال القاهرة قبل أن يلقي الرئيس المصري عبد الناصر خطبته من فوق منبر الجامع، فتوقفت الإذاعة المصرية عن الإرسال، وهنا كانت المفاجأة الكبرى التي صعقت من أراد إسكات صوت الإذاعة المصرية، فقد انطلقت إذاعة دمشق على الفور بالنداء "هنا القاهرة من دمشق، هنا مصر من سورية، لبيك لبيك يا مصر".

هنا القاهرة من دمشق! يومًا ما كنا أحياء، كنا أُمَّةً واحدة وإن تعددت حدودنا وأسماؤنا، تصرخ امرأة في السوق مستنجدة ليُغيثها المعتصم بجيشه.. 

هل يمكن أن تنقلب الآية لتصبح "من القاهرة هنا دمشق، لبيك لبيك يا سوريا"؟ لا، ولم نفعل ذلك ونحن آمنون مُنعمون مستمرين في طريقنا نحو عالم أفضل، مش أحسن ما نبقى زي سوريا والعراق!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.