إذا تابعت تعليقات العرب بعد الأحداث الأخيرة التي وقعت في لندن الشهر الفائت، وسقوط عددٍ من المدنيين مقابل البرلمان البريطاني، سيتبادر إلى ذهنك عددٌ من الأحاجي وتساؤلاتٌ عقيمةٌ لا تنتهي: كيف يستطيع البعض تمني الموت لغيرهم من البشر، على اختلاف ألوانهم ودياناتهم وأعراقهم؟ أليسوا في البداية والنهاية أجسادٌ من روحٍ ودم، جاؤوا إلى الدنيا ليعيشوها كاملةً مثلما جئنا؟ أليس بعضهم آباءٌ يشقون الحياة بحثاً عن رزقٍ لأولادهم؟ أليس فيهم أمهاتٌ خرجن مع أطفالهن للنزهة؟ أليس بعضهم عشاقٌ ومعشوقين يقضون أيامهم على ضفاف الهوى بعيداً عن ضوضاء العالم؟ أليس لأولئك المدنيين أهلٌ يحبونهم؟ عائلاتٌ تنتظرهم؟
إن كان صاحب الفكر الأرعن ذاك مصدقاً ما آلت إليه نفسه المريضة من استنتاجاتٍ وأحكام، وأن الإرهاب والانتقام سيعيدان للدين رايته، فلينظر إلى الشرق الأوسط ومآسيه ودمائه، وتاريخه الطويل في الألم والظلم، وليتعظ ويصمت. |
ألم نعاني كبؤساءٍ خُلقنا في عالم عربي حزين من العنف والخوف والموت، حتى غلغل الحقد قلوبنا لنتمنى الدمار للآخرين؟ ألم تعلمنا الأزمات والحروب أن الأمن غاية الإنسان الأولى، وحجر الأساس في الحضارة، إن انعدم فنيت حياته وتقزمت طموحاته؟ الأولى أن نسعى وراء الحياة لأنفسنا ولغيرنا من الشعوب، وإن تمنينا زوال نعمة الأمن والاستقرار على الأمم الأخرى، فلن نُمنح أولويةً في المجد. ثم كيف يستطيع البعض أن يتكلم بلسانٍ حاد، وكأنه أُعطي سلطة من الله تخوله إطلاق الأحكام على الشعوب بالكُفر والعصيان، وأن ما يحل بهم من كوارث هي نتيجة غضب الله عليهم.
المقيت حقاً هو استناد أقوال متحجري الفكر إلى الدين والسنة، مع أن في التاريخ الإسلامي الكثير من المواقف المشرقة لقادة الأمر والحرب، بدأها الرسول في وصاياه قبل موقعة مؤتة عندما قال لجيشه: "اغْزُوا ولا تغُلُّوا، ولا تغدرُوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا، أو امرأة، ولا كبِيرًا فانياً، ولا مُنْعزِلاً بِصوْمعة".
وكذلك "الصدِّيق" أبا بكر أوصى جيش "أسامة بن زيد" ألا يقتلوا شيخاً أو طفلاً أو امرأة، وألا يقلعوا شجرة، ولا يقتلوا شاة إلا لمأكلة، في وصايا عسكرية تُدرس أخلاقها للآن، وكذلك الأمر بالنسبة للـ"فاروق" عمر عندما دخل بيت المقدس لم يمسس النصارى بسوء، ولم يصب كنائسهم بأذى، على عكس أجيال اليوم الذين يرون في الصليب عدوَّاً لهم، وفي غير المسلمين أنداداً فاجرين.
النظرة العدائية والأفكار السلبية تجاه الدول الغربية هي مَن مهدت للتطرف الإسلامي بيئة مناسباً، ومناخاً متشدداً من المعتقدات التكفيرية التي لا تمت لروح الدين بصلة.
إذا زرت "لندن" ولو ليومٍ واحد، ستجد نفسك ضمن مدينة تحتضن منذ قرونٍ طويلة ثقافاتٍ مختلفة، وأعراقٍ لم تألف وجودهم في أي بلدٍ عربي، في الوقت الذي تململ كثيرٌ من العرب وجودَ أقلياتٍ غريبةً في بلدانهم، أو عند قدوم "أشقائهم" في الدول المجاورة طالبين الملجأ الآمن لبضعٍ من الوقت.
إن كان صاحب الفكر الأرعن ذاك مصدقاً ما آلت إليه نفسه المريضة من استنتاجاتٍ وأحكام، وأن الإرهاب والانتقام سيعيدان للدين رايته، فلينظر إلى الشرق الأوسط ومآسيه ودمائه، وتاريخه الطويل في الألم والظلم، وليتعظ ويصمت.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.